ليبيا بعد القذافي : لعبة الأمم بين أمريكا وروسيا وتركيا وتبدّل الولاءات الاستراتيجي

ما جرى في ليبيا عام 2011 لم يكن ثورة شعبية بالمعنى المتداول، ولا حربًا أهلية عفوية، بل مشروع تفكيك ممنهج صُمم في غرف القرار الغربية.
خلف الشعارات الإنسانية الزائفة، كانت تتحرك خطط أكبر لإسقاط نظام استُهلكت ورقته، ونهب مدخرات بلد غني، ثم تسليمه لصراع نفوذ مفتوح. 

وبينما اصطفت روسيا وتركيا لاحقًا في مشهد المواجهة العلنية، ظل اللاعب الأمريكي يتحكم بخيوط اللعبة من الخلف، ويعيد ترتيب المشهد وفق مصالحه، لا وفق مبادئ أو تحالفات دائمة.


أولاً: القذافي.. الورقة التي احترقت لا العدو الذي يُخشى


لم يكن القذافي في سنواته الأخيرة عدوًا حقيقيًا للغرب. فقد صالحهم، وتعاون استخباراتيًا مع أمريكا في ملف "مكافحة الإرهاب"، وتنازل عن مشروعه النووي طوعًا، بل سعى للاندماج التدريجي في المنظومة الدولية. ومع ذلك، فإن هذه الخطوات لم تشفع له، لأنه لم يعد مطلوبًا كشخص، بل أُبقي فقط طالما أن ورقته مفيدة. وحين انتهى دورها، تقرر التخلص منه، لا لأنه خطر، بل لأن لحظة النهب قد حانت.

فمشروعه الإفريقي لإنشاء عملة موحدة مدعومة بالذهب، وسعيه لتحرير القارة من قبضة صندوق النقد، وامتلاكه شبكة نفوذ معقدة داخل إفريقيا، جعلت منه عبئًا على النظام المالي العالمي. ولم يكن مطلوبًا فقط إنهاء نظامه، بل سحب بساط التأثير منه، والاستحواذ على ما تركه من أرصدة واستثمارات وذهب واحتياطات مالية داخل ليبيا وخارجها.


ثانيًا: التدخل الغربي.. تغطية إنسانية لنهب استراتيجي


تدخل الناتو لم يكن حماية لمدنيين، بل غطاءً لتصفية حسابات قديمة، وتنفيذ خطة موضوعة سلفًا لتفكيك الدولة الليبية. فبمجرد سقوط النظام، فُتحت أبواب البلاد لنهب الثروات، بداية من الاستحواذ على الأموال الليبية المجمدة في أوروبا، والتي اختفت تدريجيًا تحت شعارات الحظر، وصولًا إلى تفكيك منظومة الدولة وخلق فراغ أمني شامل.

لم يكن غياب الدولة فشلًا عرضيًا، بل كان الغاية نفسها. إذ بمجرد تحطيم المركز، تُصبح كل الأطراف المحلية رهائن للقوى الخارجية، ويتحول الداخل إلى سوق نفوذ يتحكم به الخارج دون حرج.


ثالثًا: الانقسام الليبي.. شرقٌ عسكري وغربٌ سياسي في خدمة الخارج


أفرزت سنوات ما بعد القذافي انقسامًا عميقًا بين الشرق الليبي والغرب الليبي، ليس على أسس اجتماعية أو مذهبية، بل كنتيجة مباشرة لتدخل القوى الخارجية، التي وجدت في هذا الانقسام أداة لإدارة البلاد عبر واجهتين متضادتين.

في الشرق الليبي، برز خليفة حفتر كقائد عسكري يتلقى دعمًا من روسيا ومصر والإمارات، ويسيطر على معظم مناطق برقة والهلال النفطي. قدم نفسه كمنقذ من "الإرهاب"، بينما اعتمد على خطاب قومي سلطوي. وقد وظّف علاقاته الخارجية ليحظى بشرعية بديلة عن الشرعية الدولية، وأتاح لموسكو موطئ قدم عسكري في الجنوب المتوسطي.

أما الغرب الليبي، فتمثّل في حكومة الوفاق ثم حكومة الدبيبة، التي تلقت دعمًا سياسيًا وعسكريًا مباشرًا من تركيا وقطر، خاصة أثناء محاولة حفتر السيطرة على طرابلس. ووقع الطرف الغربي اتفاقيات أمنية وبحرية مع أنقرة، مكّنت تركيا من تعزيز وجودها العسكري والاقتصادي في المنطقة.

وهكذا، لم يعد الانقسام الجغرافي مجرد خلاف سياسي، بل أصبح جزءًا من معادلة النفوذ الإقليمي والدولي. كل طرف محلي أصبح ممثلًا لتحالف خارجي، وتحول الداخل الليبي إلى "ملحق وظيفي" للصراع الدولي، لا إلى مشروع وطني ذاتي.

رابعًا: أمريكا.. الحاضر الغائب عن الواجهة والمتحكم في العمق


اختارت الولايات المتحدة أن تقود عملية تفكيك ليبيا من الخلف، عبر ما سُمّي بـ"القيادة من الخلف" في عهد أوباما. فقد فوضت الناتو وأوروبا التنفيذ، لكنها كانت تخطط وتراقب وتوجه. وسرعان ما انسحبت من الواجهة، ليس رغبة في ترك الليبيين يديرون شؤونهم، بل لتتيح ساحة تنافس يمكن ضبطها لاحقًا حسب المصالح.

أمريكا لم تُرد بديلاً وطنيًا مستقرًا للقذافي، بل أرادت مشهدًا متعدد الأقطاب، هشًا، يمكن إدارته ولا يمكنه التمرد. ومن هنا بدأ التمهيد لدخول قوى إقليمية ودولية بديلة، تُبقي النزاع مفتوحًا تحت إشراف خارجي دائم.

خامسًا: روسيا وتركيا.. وكلاء صراع على الأرض الليبية


مع انسحاب الغرب التكتيكي، دخلت روسيا وتركيا كأطراف إقليمية قوية في لعبة النفوذ. روسيا دعمت قوات حفتر، عبر شركة فاغنر، في محاولة لتثبيت موطئ قدم استراتيجي في الجنوب المتوسطي. أما تركيا فدعمت حكومة طرابلس، ووقّعت اتفاقيات بحرية ونفطية طويلة الأمد، لتأمين نفوذها في مواجهة معسكر الشرق.

لكن المفارقة أن الصراع بينهما لم يكن خارج السيطرة الأمريكية، بل كان جزءًا من معادلة مُدارة: لا يسمح لطرف أن يحسم، ولا يُترك الوضع ليستقر. تبقى ليبيا منطقة تجاذب، وميدان تجريب لخرائط نفوذ جديدة، تُصاغ خطوطها في واشنطن قبل أن تُرسم في طرابلس أو بنغازي.


سادسًا: تبدل الولاءات.. السوق المفتوح للسلطة


لم تعد الولاءات في ليبيا تُبنى على مشروع وطني أو رؤية سياسية، بل على التمويل الخارجي، وضمان البقاء. تبدلت التحالفات، تنقل السياسيون بين المحاور، وانقسمت المليشيات وفق ميزان الربح والخسارة.

هذه الفوضى ليست عرضًا جانبيًا، بل جزء من البنية المقصودة. فالتعددية الهشة تمنع ظهور مركز سيادي موحد، وتبقي القرار الوطني رهينة الخارج، فيما يتحول الداخل إلى أدوات قابلة للتفاوض.


خاتمة : ليبيا.. من مسرح إسقاط إلى مختبر تفكيك طويل الأمد


لم تكن ليبيا مشروعًا فاشلًا، بل نموذجًا ناجحًا لسياسة "الفوضى الخلاقة": إسقاط مركز الحكم، نهب الثروات، تفتيت المجتمع، تسليم السيطرة للقوى الخارجية، وإبقاء البلد في حالة تجاذب دائم لا يُنتج دولة ولا يحقق سيادة.

لم يكن القذافي العقبة، بل كان ذريعة. ولم تكن الثورة الشعبية القصة الحقيقية، بل كانت الغلاف الضروري لتبرير الفوضى. واليوم، وبعد أكثر من عقد، لا تزال ليبيا بلا دولة، بلا قرار، بلا مستقبل واضح... فقط توازن هش من المصالح، يُدار بأصابع خفية من وراء البحار.
أحدث أقدم
🏠