
مظاهر القوة المفرطة التي استخدمتها أمريكا في فيتنام
- القصف الجوي المكثف: شنت أمريكا حملة قصف جوي هائلة، خاصة ما عُرف بـ"عملية الرعد المتدوي" (Operation Rolling Thunder)، حيث أُلقيت ملايين الأطنان من القنابل. واستخدمت أمريكا قاذفات استراتيجية مثل B-52، التي كانت تقصف مناطق واسعة دون تمييز فعّال بين المدنيين والمقاتلين.
- الأسلحة الكيميائية والبيولوجية: استُخدم العامل البرتقالي (Agent Orange)، وهو مادة كيميائية خطيرة دمرت الغابات والمحاصيل وتسببت في تشوهات خلقية وأمراض سرطانية لدى مئات الآلاف من الفيتناميين.كما استخدمت أمريكا النابالم، وهو سلاح حارق لاصق يستخدم ضد الأفراد، ويُحدث حروقًا مروعة.
- الكم الهائل من الجنود والمعدات: أرسلت الولايات المتحدة أكثر من 500,000 جندي في ذروة الحرب. واستخدمت كل الوسائل التكنولوجية المتاحة من دبابات، مروحيات قتالية، أجهزة اتصالات واستطلاع متقدمة، وقوة بحرية ضخمة.
- أساليب تعذيب وتصفية جسدية: وُثقت مجازر مثل مجزرة ماي لاي عام 1968، حيث قُتل مئات المدنيين العزل على يد القوات الأمريكية، بما فيهم نساء وأطفال.
لماذا فشلت أمريكا رغم كل هذا التفوق العسكري؟
- الطبيعة غير التقليدية للحرب: خاض الفيتناميون حرب عصابات لا مركزية، يتحرك فيها المقاتلون من بين السكان المحليين، ويستخدمون الأنفاق والغابات والكمائن، مما جعل التفوق الجوي والمعدات الحديثة عديمة الجدوى في كثير من الأحيان.
- دعم شعبي داخلي للمقاومة: كانت حرب تحرير وطنية بالنسبة للفيتناميين، لا مجرد صراع سياسي، فكان هناك دعم شعبي واسع للمقاومة (الفيت كونغ)، جعل من الصعب عزلهم أو القضاء عليهم.
- الجهل بالبيئة الثقافية والسياسية: لم تفهم أمريكا تعقيدات المجتمع الفيتنامي، ولا دوافعه، فكانت تقاتل عدوًا لا ترى حدوده، وتفشل في التفريق بين المدني والمقاتل.
- الانقسام الداخلي الأمريكي: تصاعدت المعارضة الشعبية للحرب داخل الولايات المتحدة، وخرجت مظاهرات ضخمة تطالب بإنهائها، خاصة بعد كشف المجازر وفشل الحملات العسكرية المتكررة.
- فقدان الهدف السياسي الواضح: دخلت أمريكا الحرب لمنع "انتشار الشيوعية" وفق عقيدة الدومينو، لكنها لم تستطع بلورة هدف سياسي قابل للتحقيق على الأرض. ومع الوقت، صار القتال من أجل البقاء فقط، بلا رؤية للنهاية.
- دعم الاتحاد السوفيتي والصين لفيتنام: حصلت فيتنام الشمالية على دعم عسكري ولوجستي كبير من القوى الشيوعية الكبرى، مما سمح لها بالاستمرار والصمود رغم الضغط الأمريكي.
القوة المفرطة: حين تصبح التكنولوجيا عبئًا
منذ بداية الحرب، اعتمدت الولايات المتحدة على "صدمة القوة" لإخماد المقاومة الفيتنامية. أطلقت حملة قصف جوية شاملة (عملية الرعد المتدوي)، أُلقي فيها أكثر من 7 ملايين طن من القنابل، أي ثلاثة أضعاف ما أُلقي في الحرب العالمية الثانية. استخدمت أسلحة فتاكة مثل النابالم والعامل البرتقالي، ليس فقط ضد المقاتلين بل لتدمير الطبيعة، المحاصيل، والغابات، في محاولة لتجفيف منابع الدعم الشعبي للمقاومة.
لكن هذه القوة، بدلًا من أن تُخضع، عمّقت الكراهية ووسّعت الحاضنة الشعبية للمقاومة. لقد أخفقت أمريكا في فهم قاعدة بسيطة: القوة العارية حين تُوجَّه إلى شعب مستعد للتضحية، لا تؤدي إلا إلى تعزيز مقاومته.
الخصم غير المرئي: حرب بلا جبهة
العدو الذي واجهته أمريكا لم يكن جيشًا نظاميًا تقليديًا، بل حركة تحرر شعبية تقاتل بأسلوب حرب العصابات. الجنود الأمريكيون كانوا يسيرون وسط قرى لا يدرون من فيها مقاوم ومن فيها مدني. الأنفاق تحت الأرض، الكمائن الليلية، الهجمات الخاطفة، والتسلل عبر الغابات، كلها جعلت من الجيش الأمريكي آلة ضخمة لكنها عمياء في ميدانها.
المعادلة كانت واضحة: من يقاتل دفاعًا عن وطنه يستطيع الانتظار، أما من يقاتل لتحقيق أجندة سياسية عابرة للمحيطات، فإن الوقت ضده، مهما كان تسليحه.
الخطأ الاستراتيجي: الجهل بالمجتمع الفيتنامي
أمريكا لم تفهم فيتنام. تعاملت مع الصراع بمنطق الحرب الباردة: شيوعية مقابل ديمقراطية، وتجاهلت أن الفيتناميين قاتلوا أولًا من أجل تحرير أرضهم، لا من أجل أيديولوجيا ماركسية. فالحرب كانت امتدادًا لصراع طويل ضد الاستعمار الفرنسي ثم الياباني، قبل أن تتحول إلى مواجهة أمريكية.
لقد فشلت واشنطن في قراءة البنية الثقافية والسياسية والاجتماعية للمجتمع الفيتنامي، فخاضت حربًا ضد شعب، بينما كانت تتوهم أنها تحارب تنظيمًا شيوعيًا يمكن سحقه عسكريًا.
الانقسام الداخلي: حين تتصدع الجبهة من الداخل
مع اتساع نطاق الحرب وتصاعد الفظائع، بدأت الكاميرات تنقل للعالم صور القصف والضحايا، وظهرت مجازر كـماي لاي، حيث قُتل مئات المدنيين العزل بدم بارد. هذه الصور لم تزعزع فقط صورة أمريكا في الخارج، بل فجّرت موجات من الغضب في الداخل.
انتشرت حركات رفض الحرب داخل الجامعات، وخرجت مظاهرات ضخمة في واشنطن. فئة واسعة من الجنود العائدين مصابين نفسيًا وجسديًا، بدأوا يشككون في جدوى القتال. الحرب تحولت من معركة عسكرية إلى أزمة سياسية داخلية.
حروب لا تُحسم بالسلاح
كان يمكن لأمريكا أن تنتصر لو كان الصراع محصورًا في ميدان السلاح. لكنها واجهت خصمًا لا يقاتل فقط بالسلاح، بل بالمعنى: معنى الاستقلال، معنى الهوية، معنى التضحية. وفي المقابل، خاضت أمريكا حربًا بلا معنى حقيقي لشعبها، سوى شعارات فضفاضة عن "منع الشيوعية".
وفي النهاية، انسحبت القوات الأمريكية عام 1973، وسقطت سايغون بعد عامين، معلنة نهاية حرب كلّفت أمريكا أكثر من 58 ألف قتيل، ومئات آلاف المصابين، وتريليونات من الدولارات، وخسارة سياسية ونفسية كبرى لا تزال آثارها تُدرّس حتى اليوم.
خاتمة: حين تنهار الأساطير
أثبتت حرب فيتنام أن التفوق العسكري لا يضمن النصر، وأن الشعوب التي تقاتل دفاعًا عن وجودها تستطيع إسقاط أعتى الإمبراطوريات. لقد كانت الحرب فضحًا لأسطورة "الآلة الأمريكية التي لا تُهزم"، وكشفت هشاشة المشروع الإمبراطوري عندما يُبنى على القوة وحدها دون فهم للواقع أو احترام للشعوب.