
هذا ليس سردًا تاريخيًا، بل محاولة لفهم:
كيف تحوّلت مصر من دولة مشروع إلى دولة وظيفية؟
ومن قائد يحمل فكرة إلى جهاز يحمل قائدًا؟
عبد الناصر: حلم الدولة المستقلة... في فخ القطبين
جاء عبد الناصر بمشروع وطني حقيقي، لكنه سرعان ما وجد نفسه محاصرًا بثنائية الحرب الباردة.
استقلال القرار كان هدفه، لكن تحالفه مع السوفييت كان ضرورة أمام الهيمنة الغربية.
قاد تحررًا قوميًّا، لكنه لم ينجُ من آليات الدولة الأمنية المركزية، التي غدت لاحقًا سلاحًا ضده.
هزم الاستعمار، لكنه لم يستطع تأسيس ديمقراطية أو مؤسسات مستقلة.
سقط بعد نكسة، لكن ما بقي هو النموذج: زعيم يختصر الدولة، وجيش يُختصر في الزعيم.
السادات: سلام مقابل الشرعية... وتحالف مع القاتل
خالف السادات إرث عبد الناصر، فانتقل من السوفييت إلى الأمريكان، ومن مشروع قومي إلى صفقة استراتيجية.
حرب أكتوبر كانت آخر لحظة سيادة فعلية، تلتها كامب ديفيد، التي ربطت قرار مصر بالبيت الأبيض.
تحالف مع الإسلاميين في البداية ليُحاصر الناصريين، ثم اصطدم بهم حين أراد فرض "السلم الأمريكي" على الجميع.
انتهى به المطاف مقتولًا على يد من استخدمهم سابقًا، وسط تسهيلات غربية خفية أرادت طي صفحة الحرب تمامًا.
مبارك: إدارة الصمت.. وبناء الجيش الأمريكي بزي مصري
ورث مبارك السلام، ولم يسعَ لتغييره، بل كرّسه كعقيدة سياسية واقتصادية وأمنية.
أعاد تشكيل الدولة كشبكة مصالح محمية من الجيش والأمن ورجال الأعمال.
لكن الأخطر كان ما حدث في الخفاء:
تحوّل الجيش تدريجيًا إلى مؤسسة أمريكية السلوك والعقيدة، بتدريب وتسليح وتمويل مباشر، في إطار شراكة مشروطة:
- ضُربت الصناعات الوطنية
- أُعيدت هيكلة التعليم العسكري وفق المعايير الأمريكية
- تم تأهيل قيادات الجيش لمهام داخلية واستثمارية لا سيادية
ولذلك، حين سقط مبارك، لم يسقط النظام، بل سلّم الراية لصنيعة هذه البيئة الجديدة: عبد الفتاح السيسي.
السيسي: نبوءة أم نتيجة؟ الكارثة التي جرى إعدادها بهدوء
لم يكن السيسي مشروعًا خارجيًا أُسقط على مصر، بل نتاجًا داخليًا لمنظومة صُنعت منذ عقود.
كان ضابطًا هادئًا صعد من داخل جهاز أعيد تشكيله خصيصًا لمرحلة ما بعد مبارك.
تربى في مدرسة الولاء للأمريكان، لا لمشروع وطني.
وحين حانت لحظة الفراغ بعد الثورة، خرج كالتجلي الطبيعي لتراكمات ثلاثين عامًا من الترويض والتهيئة.
أمسك بزمام الدولة، لا ليحررها، بل ليُديرها بمنطق شركة أمنية ذات استثمارات عسكرية،
يُجرّم الاحتجاج، يُشيد السجون، يُبني القصور، ويُعيد ترتيب الخريطة السياسية والاجتماعية لتناسب وظيفة الدولة الجديدة:
دولة تضمن الاستقرار لا السيادة، وتؤدي أدوارًا وظيفية ضمن معادلة إقليمية مرعية أمريكيًا.
خلاصة
ما بدأ مع عبد الناصر من مشروع تحرري، تحوّل مع السادات إلى صفقة، وتجمّد مع مبارك في حالة أمنية راكدة، ثم انفجر مع السيسي بوصفه كارثة ناعمة تم إعدادها بدقة.
فالسيسي ليس استثناء، بل نهاية منطقية لمسار طويل أُعيدت فيه صياغة الجيش والدولة على النمط الأمريكي، تحت شعار الاستقرار، وعلى حساب الإرادة الشعبية والسيادة الحقيقية.