حسني مبارك : الرئيس الصامت الذي حكم بآلة صاخبة

ثلاثون عامًا من الحكم، بدا خلالها حسني مبارك وكأنه لا يقول شيئًا، بينما تقول أجهزته كل شيء.
كان الصمت تكتيكًا، والجمود سياسة، والبيروقراطية درعًا يُخفي وراءه دولة عسكرية أمنية، 
أُعيد تشكيلها على مقاس أمريكي منذ لحظة اغتيال السادات.
في الظاهر، كان الاستقرار هو السمة. لكن في العمق، 
كانت الهوية تُستنزف، والقرار يُباع، والجيش يُخصخص سياسيًا.


الوريث البارد لمعادلة كامب ديفيد

لم يكن حسني مبارك صانع مرحلة، بل حارسًا لها. لم يُغيّر المعادلة التي بدأها السادات، بل قام بتثبيتها:

  • استمرار السلام مع إسرائيل دون أي مراجعة
  • البقاء في المعسكر الأمريكي بلا توازنات
  • تبريد كل الجبهات السياسية والدينية والاجتماعية

ولذلك، حافظ على الدعم الخارجي، لكنه فرّغ الداخل من السياسة، حتى أصبح البرلمان مسرحًا، والأحزاب ظلاً، والانتخابات مشهدًا متكررًا بلا مضمون.


الدولة الأمنية: من حماية النظام إلى تفكيك المجتمع

اعتمد مبارك على جهاز أمني متعدد الرؤوس: المخابرات، أمن الدولة، الحرس الجمهوري، ووحدات التدخل. لكن مهمته لم تكن فقط حماية النظام، بل تفريغ المجال العام من أي قوى مستقلة.

قُيّدت النقابات، واحتُكرت الصحافة، وهُمّشت الجامعة، وتمّت إعادة هندسة المجتمع على نمط الولاء لا الكفاءة. فصار التوظيف بالواسطة، والنجاح بالرضا الأمني، والانتماء الوطني بالسكوت.


أمركة الجيش: جيش أمريكي بروح مصرية مفرغة

هنا مكمن التحول الأخطر:
منذ الثمانينات، بدأ مشروع أمريكي طويل المدى لإعادة هيكلة الجيش المصري:

  • تدريب الضباط في أمريكا
  • تسليح بمعونة مشروطة (1.3 مليار سنويًا)
  • برامج شراكة عسكرية تخضع لمنظومة العقيدة القتالية الأمريكية
  • توجيه عقيدة الجيش من "تحرير الأرض" إلى "ضبط الأمن والاستقرار الإقليمي"

ومع الوقت، أصبحت الطبقة العليا من الجيش مرتبطة بأمريكا ماليًا وثقافيًا، وتكوّن جيل من القيادات "المهذبة دوليًا"، يُدير الدولة بعقلية تكنوقراطية – استثمارية – أمنية، لا بعقلية التحرير أو السيادة.

السيسي لم يكن طفرة، بل نتاج طبيعي لهذا المسار.
ضابط هادئ، تدرّج في هذه البيئة، حتى صار رمزًا للنسخة الجديدة من الجيش:
جيش يحكم ولا يحرر، يستثمر ولا يقاتل، يراقب الشعب ولا يزعج التحالفات.


الاقتصاد المُرتهن: الخصخصة بلا حماية

في عهد مبارك، كانت الخصخصة هي الاسم الحركي لتجريف الثروة.
عُرضت الشركات الوطنية للبيع، وتحوّلت المؤسسات إلى أدوات للتمويل لا للتنمية.
نشأ تحالف رجال أعمال مرتبط بالسلطة، وتمّت إعادة إنتاج نخبة مالية، تخلّت عن الصناعة مقابل الاستيراد والسمسرة.

وفي الريف، انهارت شبكات الزراعة المحلية، وضُرب الاكتفاء الذاتي الغذائي، بينما كانت السردية الرسمية تحتفل بالبورصة والاتصالات.


لماذا سقط؟ ولماذا لم يسقط النظام؟

حين اندلعت ثورة يناير، لم تكن ضد رجل فقط، بل ضد معادلة كاملة.
لكن مبارك اختُزل في "الرأس"، فأسقطه الجيش من أجل إنقاذ الجسد.
انسحب بهدوء، بلا دم، بعد أن تأكدت المؤسسة العسكرية أن بديله - أياً كان - لن يهدد امتيازاتها.

وهكذا سقط الرجل، لكن النظام أعاد إنتاج نفسه بشكل أكثر وقاحة، إلى أن استعاد الجيش سيطرته الكاملة من خلال واجهة أكثر صراحة: عبد الفتاح السيسي.


خلاصة

حسني مبارك لم يكن ديكتاتورًا متغطرسًا كالقذافي، ولا صاحب مشروع كما ناصر أو السادات، بل كان موظفًا رفيعًا لدى النظام العالمي الجديد.
سهر على حفظ شروط السلام، واحتواء الإسلاميين، وخنق السياسة، وتكييف الجيش لمهام أمريكية.

وما نراه اليوم، من عسكرة الدولة ومركزة الاقتصاد وتحالف الدين الرسمي مع السلطة، هو مجرد استمرار ناعم لما بدأه مبارك بهدوء ودهاء.



أحدث أقدم
🏠