
في القرن السابع الميلادي، وبينما كانت الإمبراطوريات العظمى – الفارسية والرومانية – تتآكل في حروبها العبثية، ظهرت في قلب الصحراء العربية دعوة توحيدية، لم تلبث أن تحوّلت من صوت فرد في مكة إلى مشروع عالمي يمدّ جذوره في الروح، وفروعه في السياسة، والمعرفة، والعمران. إن لحظة البعثة النبوية ليست لحظة روحية فقط، بل لحظة حضارية حقيقية، غيّرت مسار التاريخ الإنساني بأسره.
أولًا: الحدث – ماذا وقع في القرن السابع؟
في عام 610م، تلقّى محمد بن عبد الله، في غار حراء، أول وحي من القرآن الكريم. لم تكن الرسالة مجرد دعوة دينية، بل مشروعًا لتغيير الإنسان والمجتمع، وتحطيم أنماط الجاهلية الفكرية والاجتماعية والسياسية. وبحلول عام 632م، كان الإسلام قد وحد الجزيرة العربية، وبدأت موجات الفتح الكبرى تنطلق نحو الشمال والشرق. خلال قرن واحد، امتد الإسلام من حدود الصين إلى جنوب فرنسا، في ظاهرة تمدّد غير مسبوقة في تاريخ البشرية.
ثانيًا: الأسباب – لماذا انتشر الإسلام بهذه السرعة؟
- الفراغ الحضاري والأخلاقي: كانت الشعوب تعاني من فساد الإمبراطوريات، وظلم الطبقات، وتحجّر العقائد. جاء الإسلام كبديل يحمل العدالة والتوحيد والمساواة.
- القوة الروحية والفكرية للرسالة: الإسلام قدّم تصورًا شاملًا للحياة، يجمع بين الإيمان والعمل، ويوازن بين الفرد والمجتمع، ويمنح المعنى والكرامة.
- القيادة النبوية الفذّة: شخصية النبي محمد ﷺ جمعت بين الرحمة والحكمة، والحزم والبصيرة، وأسست نموذجًا قياديًا لم تعرفه الجزيرة من قبل.
- مرونة الفتح وعدالته: لم يكن الفتح الإسلامي مشروع احتلال، بل تحررًا من الاستبداد الديني والسياسي. احتُرمَت عقائد أهل الذمة، وأُقرّت لغاتهم وثقافاتهم، في نموذج فريد.
- التفوق الأخلاقي والعسكري والسياسي للمسلمين الأوائل: لم يكن النصر بالسيف فقط، بل بثقة الرسالة، ونقاء العقيدة، وعدالة التنظيم.
ثالثًا: التداعيات – ما الذي تغيّر بعد ظهور الإسلام؟
- تحطيم ثنائية القوى القديمة: سقطت الإمبراطورية الفارسية تمامًا، وتقهقرت بيزنطة، وانبثق محور حضاري جديد من أطراف ما كان يُظن "هامشيًا".
- إعادة تعريف مفهوم الدولة: الدولة الإسلامية الأولى لم تُبنَ على عصبية أو قومية، بل على العقيدة والبيعة والشورى، ما شكّل نقلة نوعية في مفهوم السلطة.
- ثورة معرفية: فتحت الحضارة الإسلامية أبواب الترجمة، والتفكير، والبحث في كل العلوم، وأطلقت العصر الذهبي للمعرفة الإنسانية، من بغداد إلى قرطبة.
- إعادة تشكيل الهويات: تحوّلت شعوب بأكملها من التبعية الثقافية إلى الاستقلال، فصارت اللغة العربية لغة علم، والفكر الإسلامي إطارًا مرجعيًا عالميًا.
رابعًا: النتائج العميقة – كيف غيّر الإسلام خريطة التاريخ؟
- كسر المركزية الغربية: لم يعد الغرب وحده مركز العالم. ظهرت مراكز حضارية في دمشق، وبغداد، والقاهرة، والأندلس، وسمرقند.
- خلق حضارة جامعة: الإسلام وحد بين العربي، والفارسي، والقبطي، والبربري، والتركي، والهندي، تحت راية فكرية واحدة، دون طمس للخصوصيات.
- بناء نموذج حضاري بديل: النموذج الإسلامي لم يكن تقليدًا لروما أو فارس، بل رؤية جديدة للإنسان، والعلم، والسياسة، والمعنى.
- مقاومة مستمرة عبر الزمن: منذ نشأته، أصبح الإسلام هدفًا لمشاريع الهيمنة (صليبية، استعمارية، استشراقية)، لأنه مشروع تحرر داخلي وخارجي، لا يقبل الخضوع.
خلاصة
ظهور الإسلام لم يكن مجرد لحظة دينية في جزيرة منعزلة، بل نقطة انعطاف كبرى في مسيرة البشرية. لقد خرج نور من صحراء كانت تُحتقر حضاريًا، ليعيد تعريف القوة، والمعرفة، والغاية من الوجود. ولأن هذا الدين استنهض الإنسان وأعطاه معنى، بقيت الحضارات المهيمنة تخشاه، لا لما يملكه من سيوف، بل لما يحمله من يقين.