
لم يكن عام 1948 مجرد لحظة إعلان دولة. لقد كان تاريخًا صادمًا في ذاكرة الشرق، حين فُرض على أرضه كيان غريب بقوة السلاح والدعاية. في ذلك اليوم، وُلدت دولة لم تكن يومًا على الأرض، وسُلب وطن لم يغادر أهله أرضه، لكنه أصبح يُعامل كلاجئ في وطنه.
أولًا: الحدث – ما الذي جرى في 15 مايو 1948؟
أعلنت الحركة الصهيونية، بدعم بريطاني وأمريكي، قيام ما سمّي بـ"دولة إسرائيل" على أرض فلسطين. جاء الإعلان بعد نهاية الانتداب البريطاني، الذي أعدّ المسرح سياسياً وعسكرياً وديموغرافياً لتحقيق هذا السيناريو. وفي اليوم التالي، اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، لكنها لم تكن متكافئة، بل أشبه بحفلة خداع جماعية أُريد بها تبرير الهزيمة وتمرير الأمر الواقع.
ثانيًا: الأسباب – كيف وصلنا إلى هذه اللحظة؟
- وعد بلفور (1917): تعهّد بريطاني بإقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، كرشوة لليهود الأوروبيين مقابل دعم الحرب العالمية الأولى.
- الانتداب البريطاني (1920–1948): فترة من التسهيلات المنظمة للهجرة اليهودية، وتجريد الفلسطينيين من أدوات القوة.
- الهولوكوست والمظلومية اليهودية: استثمرت الصهيونية اضطهاد اليهود الأوروبيين لتبرير إقامة دولة على حساب شعب لا علاقة له بمحرقة أوروبا.
- التواطؤ الدولي وصمت الأمم: العالم "المتحضر" اختار أن يعالج جرائمه بتصديرها إلى الشرق.
- الانقسام العربي والتفكك الإسلامي: لم تكن الشعوب العربية قد خرجت من الاستعمار بعد، فيما كانت الأنظمة الحاكمة تابعة أو عاجزة.
ثالثًا: التداعيات – ما الذي انكسر في 1948؟
- النكبة الفلسطينية: أكثر من 750 ألف فلسطيني شُرّدوا من قراهم، ودُمّرت أكثر من 500 بلدة، وتحوّلت القضية إلى "أزمة لاجئين" بدل أن تبقى جريمة احتلال.
- التطبيع مع الجريمة: اعترفت معظم دول الغرب بالكيان فوراً، فبدأت الشرعنة السياسية لاغتصاب الأرض.
- صعود مشروع استيطاني مسلّح: تأسيس جيش نظامي مدعوم غربيًا، وتحول الدولة الوليدة إلى قاعدة عسكرية غربية في قلب الشرق.
- تغيّر خريطة الوعي العربي: تحولت فلسطين إلى رمز للهزيمة، وكشفت الأنظمة التي زعمت الدفاع عنها عن خوائها وارتباطها.
رابعًا: النتائج – كيف أعادت إسرائيل تشكيل المنطقة؟
- تكريس الغلبة كمنطق للشرعية: لم تعد الأمم تُقاس بحقوقها، بل بقدرتها على فرض وجودها بالقوة.
- تحويل الصراع إلى ديني–وجودي: برغم أن المشروع صهيوني–استعماري في جوهره، فقد تغلّف لاحقًا بالدين لشرعنة الصراع.
- حروب عربية–إسرائيلية لاحقة: لم تنتهِ المعركة في 1948، بل كانت بداية سلسلة من الحروب والمقاومات والانكسارات.
- إعادة تشكيل المشرق: رُسمت تحالفات جديدة، وظهرت مشاريع قومية، وانكشفت هشاشة الكيانات السياسية العربية الحديثة.
- تشويه الذاكرة وتزوير السردية: تمّ استبدال الضحية بالجلاد في الخطاب الغربي، فأصبحت إسرائيل "قلعة الديمقراطية" في "صحراء العرب".
خامسًا: دلالة الحدث – لماذا 1948 هو تاريخ مفصلي عالميًا؟
لأن ولادة "إسرائيل" كانت ولادة بعكس التاريخ والمنطق، إذ لم تحدث في العالم المعاصر حالة مشابهة لبناء كيان على أرض مأهولة بشعب حي، بقوة السلاح والدعم الدولي.
كما أن الحدث كشف عن تحوّل جوهري في النظام الدولي: لم يعد معيار العدالة هو الحق، بل التوازنات والمصالح.
والأخطر: أن هذا الحدث أعاد تعريف العدو والصديق في وعي الشعوب. لم يعد الاستعمار فقط هو الذي يقتل الأرض، بل من يسكت، ويشارك، ويدّعي الحياد بينما تُغتصب الأوطان تحت أعينه.