ثقافة التصوير في الشارع: من الشهادة على الحدث إلى استغلال المأساة

حين تصبح الكاميرا أهم من الإنسان في لحظات الألم أو الخطر، كانت الفطرة السليمة تملي على الإنسان أن يهبّ لنجدة الآخر، أن يُنقذ لا أن يوثّق، أن يشارك في الحل لا أن يلتقط المشهد. لكنّ شيئًا تغيّر فينا، أو ربما انكشف. صرنا نرى في الحوادث فرصة، لا للنجدة، بل للترند. وفي المآسي مادة بصرية، لا تحرّك الضمير، بل تحرّك الخوارزميات.
انتشرت ظاهرة خطيرة في الفضاء العام، تُعرف اصطلاحًا بثقافة "المصور أولًا"، حيث يسارع البعض عند وقوع حادث، أو شجار، أو حالة إسعاف طارئة، إلى إخراج الهاتف وتوثيق اللحظة قبل التفكير في تقديم أي مساعدة.

وكأن الشخص الواقع في الكارثة ليس إنسانًا يحتاج النجدة، بل "محتوى" ثمين يمكن أن يحقق آلاف المشاهدات.

هذه الظاهرة لا تقتصر على التصوير العفوي، بل كثيرًا ما تكون مصحوبة برغبة واعية في "تأريخ" الحدث لصالح الحساب الشخصي، لا لغايات التوثيق الحقوقي، بل للاستعراض، أو الفضول، أو حتى السخرية. الأسوأ حين تُنشر هذه المقاطع دون إذن الضحية، وقد تتسبب في أذى نفسي أو اجتماعي أو قانوني له، بينما لا يشعر "المصوّر" أنه ارتكب شيئًا مرفوضًا، بل يراه مساهمة إعلامية أو مشاركة مجتمعية!

من ثقافة الشهادة إلى ثقافة التشييء

من الناحية الفكرية، يمكن فهم هذا السلوك كتجسيد لثقافة "التشييء" (Objectification)، حيث يُنظر إلى الإنسان لا ككائن حيّ ذو كرامة، بل كعنصر بصري يمكن الاستفادة منه لتحقيق غاية ذاتية. في هذه الثقافة، تتراجع القيم الإنسانية، وتُختزل الكارثة إلى "مشهد"، والإنسان إلى "ترند".

قد يحتج البعض بأن التوثيق ضروري أحيانًا لكشف الظلم أو محاسبة الجاني، وهذا صحيح في حالات محددة، لكن المشكلة حين يتحوّل هذا التوثيق من وسيلة إلى غاية، ويترافق مع التخلي عن المسؤولية الأخلاقية في مساعدة من هو في محنة. هناك فارق واضح بين من يصور ليكشف جريمة ويوصلها للعدالة، وبين من يصور ليكسب إعجابات ويضحك على التعليقات.

الإعلام الاجتماعي وتبدّل الأولويات

ساهمت المنصات الرقمية في تعزيز هذه الظاهرة، حيث أصبح "التفاعل" و"الانتشار" مؤشرًا على القيمة، أكثر من الحقيقة أو الأخلاق. إن ثقافة "السبق الرقمي" صارت تُعلي من شأن من ينشر أولًا لا من ينقذ أولًا. وهذا ما جعل من بعض الحوادث ميادين تنافس في التصوير، لا في التدخل والمساعدة.

تخيّل مثلًا مشهدًا حقيقيًا: شخص ينزف بعد حادث دراجة نارية، وحوله عشرة أشخاص يحملون هواتفهم... لا أحد يربط الجرح، لا أحد يتصل بالإسعاف، بل الكل مشغول بتصويره وهو يئن. هل نحن أمام مشهد "عادي"؟ أم أمام انحدار أخلاقي ناعم يمرّ تحت لافتة "الحق في التوثيق"؟

أين ذهب الضمير الجمعي؟

هذا التحوّل لا يُفهم فقط على أنه تراجع في السلوك الفردي، بل كمؤشر خطير على تغيّر الضمير الجمعي. فالمجتمع الذي يطبّع هذا السلوك، ويستهلك هذه المقاطع، ويكافئها بالانتشار، هو مجتمع يُعيد تعريف البطولة والأولوية والمعنى. وهنا مكمن الخطر.

ما نحتاجه اليوم ليس حملات توعية سريعة، بل مراجعة ثقافية أعمق. مراجعة تعيد للإنسان أولوية الحضور على الصورة، وللأخلاق أولوية الفعل على الفرجة، وللوعي الجمعي أولوية النجدة على المشاهدة.

فلنُعد السؤال إلى نصابه:
في لحظة الخطر... هل تمسك يدك على الهاتف؟ أم تمسك يد من يحتاجك؟

أحدث أقدم
🏠