أكذوبة هيكل سليمان: حين تُمنح الأيديولوجيا الدينية حق احتلال الأرض

في قلب مدينة القدس، فوق هضبة التاريخ وأشلاء الحروب، يقف المسجد الأقصى حارسًا لذاكرة الأمة، بينما تتسلل أيدٍ تعبث برمزيته باسم "الحق الإلهي". 
بين سردية الهيكل المزعوم وتاريخ الأرض، تشكلت أكذوبة ضخمة، غلّفها الإعلام بالقداسة، وزينتها السياسة بالأدلة المصطنعة، حتى صارت "هيكل سليمان" ذريعة مقدسة لاغتصاب الواقع، وتبرير الاستيطان، وتزييف الجغرافيا.


الأسطورة: حين تُبنى الأحلام على الخراب

الهيكل في العقل الصهيوني ليس مجرد مبنى؛ بل أسطورة متكاملة، تحولت إلى نبوءة سياسية، ومن ثم إلى مشروع توسعي. ورغم انعدام أي دليل أثري حاسم على وجود الهيكل في موقع المسجد الأقصى، ورغم فشل عشرات الحفريات التي استمرت لعقود تحت باحات الحرم، إلا أن الإصرار العقائدي لم يتزحزح قيد أنملة. لماذا؟ لأن وجود "الهيكل" لم يكن يومًا ضرورة تاريخية، بل ضرورة أيديولوجية لتثبيت سردية "الحق التوراتي" وتكريس حضور دخيل بوصفه امتدادًا لماضٍ مقدس.

التوراة كمرجعية استعمارية

لم يشهد التاريخ الحديث استعمارًا يستند إلى "نص ديني" كما فعل المشروع الصهيوني. فبينما اعتمدت الإمبراطوريات على التفوق العسكري أو الاقتصادي، جاءت الصهيونية لتستند إلى الأسطورة التوراتية، وتُلبس الاستيطان ثوب "العودة إلى الأرض الموعودة". في هذا السياق، تحول النبي سليمان من رمز حكمة في الوعي الإسلامي إلى رمز سيادة سياسية في الخطاب الصهيوني، وصار اسمه يستخدم لتبرير انتهاك المقدسات، وقلب الحقائق، وتزييف الحاضر.

المسجد الأقصى كعقبة أمام الأسطورة

لم يكن المسجد الأقصى يومًا عقبة معمارية، بل عقبة رمزية أمام الأسطورة. فهو حاضر، مرئي، ثابت في الأرض، يحمل ذاكرة قرون، ويتحدى روايةً لم يُعثر لها على حجر واحد. ولذلك جاءت الحفريات، والهدم التدريجي، ومحاولات التقسيم، لتسحق الشاهد الحي وتفتح الطريق أمام الغائب المزعوم. فالمشكلة ليست في البناء، بل في الرمز: كيف تتعايش الحقيقة مع الزيف؟ وكيف يُبرر القادم المزعوم طرده لصاحب الأرض؟

من التدين إلى التسلّط: توظيف الدين في مشروع سياسي

في كل سردية احتلال، تُستخدم الرموز لتخدير الضمير العالمي، لكن في الحالة الصهيونية، تحوّل الدين إلى جهاز إنتاج سرديات، يوظّف الغيبي لتغليف المشروع الاستيطاني. "هيكل سليمان" في هذا السياق ليس موضوعًا دينيًا بقدر ما هو غلاف سياسي لمشروع توسعي. وتمامًا كما صُنعت أسطورة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، صُنعت أسطورة الهيكل لتمنح المشروع الاستعماري شرعية دينية. فالصهيونية لم تَعد تحتكم إلى القانون الدولي، بل إلى نصوص مختارة من "العهد القديم"، تُقرأ بانتقائية وتُفسَّر بسياسية.

الإعلام كذراع للأسطورة

لم يكن الإعلام العالمي محايدًا. فمنذ عقود، يتم تصدير "الهيكل" كحقيقة غائبة يجب استعادتها، بينما يُصوَّر الأقصى كعقبة سياسية أو "مكان متنازع عليه"، لا كأقدس مقدسات المسلمين بعد الحرمين. هذا التلاعب الخطابي يعيد تشكيل وعي المتلقي العالمي، بحيث يتحول الاحتلال إلى "خلاف ديني"، والمغتصِب إلى "صاحب حق تاريخي"، ويُقزَّم الشعب الفلسطيني إلى "طرف معارض" في صراع توراتي لا مكان له فيه.

الوجه الآخر للأسطورة: محو الوجود العربي

كل أسطورة تبرر فعلاً، وهذه الأسطورة تبرر المحو. فباسم "إعادة بناء الهيكل"، يُمحى الوجود العربي في القدس، وتُصادر البيوت، وتُهجّر العائلات، وتُسحق الذاكرة، وكأن إعادة هيكل لم يُثبت وجوده أصلًا تستدعي هدم ما هو قائم. ومن المفارقة أن من يزعم امتلاك حق ديني في الأرض هو من يحطم المساجد، ويعتدي على المُصلين، ويحفر تحت الأقصى في الخفاء.

تفكيك الخطاب: كيف نواجه الأيديولوجيا بالخريطة؟

الرد لا يكون عبر نقاش نصوص توراتية، بل عبر تفكيك الخطاب. يجب فضح كيفية توظيف الدين لإضفاء شرعية على الجريمة، وفضح آليات تحويل الغيب إلى أداة محو. فحين يتحول النص الديني إلى تصريح هدم، يجب أن نتساءل: من يكتب الرواية؟ ومن يحدد المقدس؟ ومن يملك مفاتيح الماضي ليمنحها لمستقبل استيطاني؟

إن كشف أسطورة الهيكل ليس نزعًا لقداسة شخصية دينية، بل نزع لشرعية مشروع عنصري يُلبّس الاحتلال ثوب الإيمان، ويستبدل الحق التاريخي للشعوب بفتاوى سياسية مغلّفة بآيات مختارة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.