
صناعة "اللاشيء": حين تصبح الإهانة محتوى
لم يعد مستغربًا أن ترى مقاطع لأشخاص يضربون أنفسهم بالكعك، أو يصرخون في الشارع بأصوات غريبة، أو يمثلون سلوكًا مهينًا باسم "التجربة الاجتماعية"، وكل ذلك تحت عنوان جذّاب: "لا تنسَ الإعجاب والاشتراك!".
المفارقة أن هذه الفيديوهات غالبًا ما تُشاهد بملايين، مما يخلق وهمًا لدى صانعيها بأنهم "مؤثرون". لكن التأثير الذي يُبنى على تسليع الذات ومحو الكرامة ليس تأثيرًا إيجابيًا بل انعكاس لانحدار في الذائقة الجماعية، حيث بات الجمهور يستهلك المذلّة كما يستهلك النكتة.
خوارزميات بلا أخلاق
جزء كبير من هذه الظاهرة تتحمّله خوارزميات المنصات نفسها، التي لا تميز بين محتوى فكري راقٍ وفيديو يُظهر شخصًا يبتلع صابونًا. المعيار الوحيد هو "المدة التي يقضيها الجمهور في المشاهدة"، مما يدفع البعض إلى تصعيد الغرابة والابتذال، كلما خفتَ وهجهم الرقمي.
إننا أمام اقتصاد افتراضي جديد، لا يُكافئ القيمة بقدر ما يكافئ الغرابة، ولا يحترم الجهد بل يُعلي من التفاهة إذا كانت مربحة.
تسليع الإنسان: حين تصبح الذات مادة تسويق
في هذا المناخ، لم تعد الذات الإنسانية شيئًا يُصان، بل باتت تُستعرض وتُباع وتُنتج كسلعة. المراهقون اليوم يتعلمون أن الكاميرا هي بوابة النجومية، وأن أسرع طريق للانتشار هو "لفت الانتباه"، بأي وسيلة ممكنة.
ومع كل لايك وتعليق، تُغذّى الرغبة في المزيد، ويصبح "الإهانة الذاتية" شكلًا من أشكال التجارة، حيث تُستبدل الكرامة الرقمية بلغة السوق: تفاعل، ترند، ربح.
من المسؤول؟ سؤال لا يُعفى منه أحد
هل المسؤول هو الجمهور الذي يُشاهد؟ أم المنصات التي تُروّج؟ أم صانع المحتوى الذي يُفرّط بكرامته؟ الحقيقة أن المسؤولية موزّعة، لكنها تعكس خللًا أعمق في المنظومة التربوية والقيم المجتمعية.
حين يغيب المعنى، يبحث الإنسان عن البديل في التسلية. وحين يُختطف التعليم من دوره التوعوي، تصبح السوشيال ميديا هي المدرسة الوحيدة، لكنها مدرسة بلا مناهج، بلا ضوابط، بلا سقف للسقوط.
خاتمة: نحو وعي رقمي بديل
لسنا ضد استخدام المنصات ولا ضد صناع المحتوى، بل ضد تسليع الإنسان وتحويل الذات إلى أداة للابتذال. نحن بحاجة إلى وعي رقمي يُعيد تعريف النجاح، لا بوصفه عدد مشاهدات، بل قيمة مضافة في العقول والقلوب.
المشكلة ليست في الكاميرا، بل في العيون التي لم تعد ترى الفرق بين الكرامة والتهريج.