تسويق الألعاب الإلكترونية: الترفيه المقنّع وضياع الزمن

في عالم تُقاس فيه القيمة بمدة التفاعل، لا بالمعنى أو الفائدة، أصبحت الألعاب الإلكترونية سوقًا مربحة تستنزف الوقت أكثر مما تثمره. لم تعد موجهة فقط للأطفال كوسيلة للتسلية، بل تحوّلت إلى منظومة معقّدة تسوّق للكبار أيضًا، عبر رسائل خفية وأخرى مباشرة، تُطوّع فيها التقنية والنفسية البشرية لخدمة أرباح الشركات وتوسيع نفوذها الثقافي.
التسويق هنا لا يعرض مجرد "لعبة"، بل يبيع إدمانًا مغلّفًا بالمتعة، وحياة افتراضية تستعير من الواقع صراعاته ورغباته، لكنها تفرغها من كل مسؤولية وهدف. فباسم التسلية، يتحوّل اللاعب إلى مستهلك زمنيّ، يُهدر ساعات عمره في مراكمة نقاط افتراضية، وإنجازات رقمية، بينما تتآكل قدرته على التركيز، والتفكير العميق، والعلاقات الواقعية.


تسويق ذكي.. ولكن لمصلحة من؟

تُسوّق الألعاب الحديثة بذكاء نفسي بالغ، حيث تدمج بين المكافآت السريعة (dopamine hits) والارتباط العاطفي بالشخصيات أو الفريق، وتصميم التحديات التدريجية. هذه العناصر تُستقى من علوم السلوك والإدمان وتُطبَّق بدقة، لتجعل اللاعب متورطًا، لا مجرد زائر عابر.

بل إن بعض الألعاب باتت أشبه بـ"بيئة حياة بديلة"، تعيش فيها، تنفق، تبني علاقات، تُقاتل، وتفوز أو تُهزم. وهنا يكمن الخطر: إذ تُصاغ هوية المستخدم داخل لعبة، لا خارجها، ويُسلب وعيه التدريجي بأن ما يعيشه ليس واقعًا، بل محاكاة محسوبة.

من اللعب إلى الإدمان المقنّع

الإدمان على الألعاب لا يُعرَف بسهولة لأنه لا يحمل صورة الإدمان الكلاسيكي: لا مواد مخدرة، لا آثار جسدية واضحة، ولا حتى اعتراف اجتماعي بالخطر. بل على العكس، يُشجَّع عليه أحيانًا باسم "تطوير المهارات"، أو "الهروب من الضغط"، أو حتى "الربح المادي" كما في الألعاب التي تُقدَّم بوصفها فرصًا لكسب المال!

لكن الحقيقة أن كثيرًا من هؤلاء الغارقين في الشاشات يعيشون عزلة متفاقمة، وفقدانًا للتفاعل الإنساني الواقعي، واضطرابًا في علاقاتهم وأهدافهم وطريقة تفكيرهم. إنها ليست مجرد تسلية؛ إنها هندسة سلوكية دقيقة لسرقة الوقت، وتبديد طاقة التركيز، وتحويل الإنسان إلى آلة استهلاك للعبة ومنتجاتها وتحديثاتها.

حين يصبح اللعب أداة تهجين ثقافي

الألعاب أيضًا أدوات ثقافية، تُبرمج القيم والسلوك والمفاهيم ضمن حبكاتها وقصصها. خذ مثلًا ألعاب الحروب والجنود: ما هي الصورة التي تُرسَّخ عن "البطل"؟ عن "العدو"؟ عن فكرة الشجاعة، والولاء، والنجاة؟ إنها روايات مختارة بدقة، وغالبًا ما تُعاد فيها إنتاج سرديات القوة الغربية، والتفوق العرقي، وتهميش الآخر.

بل قد يُروّج في بعض الألعاب بشكل غير مباشر لصراعات هوياتية، أو تطبيع مع الاحتلال، أو تمرير أجندات سياسية، دون أن يلاحظ اللاعب شيئًا. لقد تجاوزت الألعاب مرحلة الترفيه، ودخلت مرحلة "التوجيه الناعم للوعي".

من يدفع الثمن في النهاية؟

قد يُقال: "الألعاب حرية شخصية"، وهذا صحيح من حيث الشكل. لكن حين تصبح جزءًا يوميًا من حياة الملايين، وتستهلك أعمار الأطفال والشباب في لحظات فراغ مصمّمة، دون رقابة، ودون وعي بما تُحدثه من تآكل في التركيز والسلوك والعلاقات، فالأمر لم يعد مسألة حرية، بل مسألة وعي مفقود.

فنحن أمام صناعة ترسم نمط حياة، وتعيد تعريف الطفولة، والمراهقة، وحتى الرجولة والبطولة، وفق منطق افتراضي. واللاعب، بغير وعي، يصبح جنديًا في جيوش استهلاكية تُدار من خلف الشاشات، يحارب فيها من أجل لا شيء، ويخسر فيها أكثر مما يتخيل.

نحو وعي جديد بلعبة الحياة

ما نحتاجه اليوم ليس شيطنة التكنولوجيا ولا تحريم الألعاب، بل قراءة عميقة لأثرها الحقيقي على الفكر والسلوك. اللعب حق مشروع، لكن حين يتحوّل إلى وسيلة لتبديد الذات، وتغذية السطحية، وقتل الوقت، فإنه لم يعد لعبًا، بل آلة ترويض حديثة.

والسؤال الذي يجب أن يُطرَح على كل لاعب: كم من وقتك أنت تملك، وكم منه سرقته لعبة لم تمنحك شيئًا إلا وهم الفوز؟

أحدث أقدم
🏠