السكن تحت الجسور: حياة دائمة في ظل الخرسانة

في قلب المدن الكبرى، حيث تعلو الأبراج وتزدحم الشوارع بالسيارات، يستقر بشرٌ اتخذوا من الجسور مأوى دائمًا، ليس لليلة أو أسبوع، بل لسنوات. 
لا نتحدث هنا عن مشردين عابرين، بل عن بشر كوّنوا حياة كاملة تحت الخرسانة، بأسقف إسمنتية مفتوحة على العدم، يطبخون، ينامون، ويتناسلون على هامش حضارة تُفاخر بتقدّمها. 
فما الذي يدفع إنسانًا إلى الاستقرار تحت جسر؟ وما الذي يمنع كل هذا التقدم من إيجاد حل؟ ولماذا يبدو هذا المشهد طبيعيًا في كثير من المدن العربية والعالمية؟


أبعاد الظاهرة: حين يتحول التهميش إلى عنوان إقامة

العيش تحت الجسور لم يعد حالة استثنائية ولا مؤقتة. إنه خيار اضطراري يتحول إلى إقامة طويلة الأمد، بل وأحيانًا إلى مجتمعات مصغرة لها أعرافها وسلوكها. هنا تتجلى أبعاد عديدة:

  • البُعد الاقتصادي: عجز الدولة أو تجاهلها لمعالجة جذور الفقر والتشرد، مع ارتفاع جنوني في أسعار السكن حتى في أكثر المناطق بؤسًا.
  • البُعد النفسي: كثير ممن سكنوا الجسور مرّوا بانكسارات نفسية حادة (حروب، تهجير، طلاق، بطالة، سجن...) أدت إلى قطيعة مع المجتمع وفقدان الشعور بالانتماء.
  • البُعد الحضري والسياسي: غياب سياسات إسكان عادلة، واحتكار الأراضي من قبل فئات نافذة، واهتمام البلديات بالمظاهر دون الجوهر، مما يخلق مدينة تزين واجهتها وتخفي قبحها تحت الجسور.

الأسباب العميقة: أكثر من فقر

القول بأن الفقر وحده هو سبب هذه الظاهرة فيه اختزال مخل. نعم، الفقر عامل أساس، لكنه يتشابك مع أسباب أخرى:

  • تهديم الهوية الاجتماعية: حين يفقد الإنسان شبكته الاجتماعية (عائلة، وظيفة، مجتمع) دون أن يجد بديلًا مؤسسيًا يحتضنه، لا يبقى أمامه إلا الرصيف.
  • الإهمال المؤسسي المتعمّد: بعض الأنظمة لا ترى في الفقراء مواطنين، بل عبئًا أو وصمة، فتنتهج سياسات "اللامبالاة المنظمة"، حيث يُترك المهمشون للتآكل ببطء دون تدخل.
  • اللامساواة في توزيع الثروة: في مدن تفيض بالمال والمشاريع، كيف يُعقل أن يبيت أطفالٌ في علب كرتونية؟ السبب ببساطة: اختلال جذري في أولويات الدولة، واختطاف التنمية من قبل نخب مترفة.

لماذا لا يُحلّ؟ سؤال يحطم وهم "النية الحسنة"

الصدمة الكبرى ليست في وجود الظاهرة، بل في دوامها. لماذا لم تُحل؟ لأن السؤال الحقيقي ليس: "كيف نساعدهم؟" بل: "هل نريد فعلًا مساعدتهم؟"

  • غياب الإرادة السياسية: حل أزمة السكن يعني مواجهة لوبيات العقار ومصالح الكبار، وهي معركة لا تجرؤ عليها كثير من الحكومات.
  • انشغال الدول بالشكليات: تُقام المهرجانات وتُفتتح النُصب التذكارية، بينما تُترك الفجوات البنيوية قائمة، وكأن الجوعى لا يفسدون صورة الدولة ما داموا خارج الكادر الإعلامي.
  • تحوّل الظاهرة إلى "اعتياد بصري": كلما طال أمد وجودهم تحت الجسور، كلما تحوّل المشهد إلى جزء من الديكور الحضري، فلا يثير تعاطفًا ولا يحرّك ضميرًا.

حين تصبح المدينة ضيقة إلا تحت الجسر

المدن الحديثة تزعم أنها بنيت من أجل الإنسان، لكن الواقع يقول إنها صُممت ضده. فالطرق الفارهة لا توصل إلى العدالة، والجسور العالية لا ترفع الكرامة، بل تخنق من لجأوا إلى ظلّها طلبًا لأدنى شروط الحياة. تحت كل جسر حكاية وطن فشل في احتضان أضعف أفراده. ليسوا غرباء عن المدينة، بل ضحاياها الأكثر وضوحًا.

أحدث أقدم
🏠