سُكان المقابر: الأحياء في مدن الأموات

أحد أقسى وجوه التناقض الحضري في عالم اليوم. أن تجد إنسانًا حيًّا يعيش وسط قبور الموتى، ليس مشهدًا من رواية سوداوية، بل واقعٌ قائمٌ في مدن كبرى، من القاهرة إلى مانيلا، يحمل دلالات عميقة عن الظلم الطبقي، والفشل التنموي، وربما السياسات المقصودة في بعض الأحيان لإعادة إنتاج البؤس.

في هذا المقال سنُحلل الظاهرة من زوايا متداخلة: هل هو إهمال عفوي؟ أم تدبير مستمر لإبقاء طبقات مسحوقة دون أمل في الخلاص؟ سنعرض النماذج، ونقرأ ما وراء الصورة.


الحياة وسط الموتى: حين يتحول القبر إلى بيت

في القاهرة، يُقدَّر عدد سكان المقابر (تحديدًا في مناطق مثل "مدينة الموتى" بجبل المقطم، والبساتين، والإمام الشافعي) بما يتراوح بين 500 ألف إلى مليون نسمة، بحسب بعض التقديرات غير الرسمية. يعيش هؤلاء في غرف داخل المقابر، أو فوقها، أو بجوارها، بلا خدمات أساسية، وكأن المدينة لفظتهم خارج حساباتها.

وفي الفلبين، يتكرر المشهد في العاصمة مانيلا، حيث يسكن آلاف الفقراء في المقابر الكبرى مثل مقبرة نافوتاس (Navotas Public Cemetery)، يعيشون وسط القبور، ينشرون الغسيل بين الأضرحة، ويستخدمون التوابيت كمناضد، فيما يعمل بعضهم في تنظيف المقابر أو حراستها مقابل البقاء.


هل هي أزمة إسكان فقط؟

ظاهريًا، تبدو الظاهرة ناتجة عن أزمة سكن خانقة، وعجز مزمن في الإسكان الشعبي، لا سيما في الدول ذات التعداد السكاني الكبير والفقر المستشري. لكن قراءة أعمق تُظهر أنها أكثر من مجرد "أزمة سكن":

  • في مصر، تتكدس العاصمة بالمشروعات العقارية الفاخرة، ومدن الأشباح الجديدة، التي تبنيها الدولة أو الشركات الكبرى وتظل فارغة أو خارج متناول الفقراء.
  • وفي الفلبين، لا تختلف الصورة كثيرًا: العقارات الفخمة تصعد في وسط مانيلا، بينما تُهمّش أحياء الصفيح ويُترك سكانها يبتكرون حلولهم داخل المقابر.

هذا يُثير سؤالًا حادًا: هل العجز في الإسكان حقيقي؟ أم أن "عدم الحل" هو السياسة بحد ذاته؟


سياسة الفقر: التسكين المؤقت أم الترويض الدائم؟

حين تستمر هذه الظواهر لعقود، مع غياب خطط جادة لإعادة توطين هؤلاء الناس، يُصبح من الصعب تصديق أن الأمر مجرد تقصير. يبدو أن الفقراء يُمنَحون مجرد الحد الأدنى للبقاء، دون أن تُمنَح لهم شروط الحياة الكريمة، وكأن المقابر تُستخدم كأداة "احتواء صامت" لهم: وجودهم حيٌّ لكنه هامشي، لا يُرى ولا يُحسب.

هذا الشكل من التهميش، الذي يسمح ببقاء الناس في المقابر، دون تقنين، ودون تطوير، هو أقرب إلى "سياسة لاتبني لكنها لا تزيل". وهنا يكمن البُعد الأخطر:
أن يتحول الفقر إلى حالة "طبيعية"، والموتى إلى جيران أبديين للأحياء.


أمثلة أخرى من العالم:

  • الهند: في بعض مناطق دلهي وكلكتا، تتكرر مشاهد مشابهة، حيث يعيش بعض الفقراء وسط المقابر، خاصة في فترات التشرد الكثيف بعد النزوح أو الكوارث.
  • البرازيل: في بعض ضواحي ريو دي جانيرو، تسكن الأسر بين الخرائب أو المقابر المهجورة، تحت ضغوط الغلاء والتهميش.
  • إندونيسيا: في جاكرتا، سجلت بعض التقارير وجود مئات الأسر داخل مقابر عامة، خاصة في مواسم الفيضانات حين يُجبر المشردون على البحث عن أي مأوى.

المدينة التي تَدفن أبناءها أحياء

ما يحدث في هذه المدن ليس مجرد انزلاق عمراني، بل يُعبّر عن فلسفة تنموية تعيد إنتاج الظلم تحت غطاء "الضرورة"، وتسوقه كأمر واقع. أن يقيم الناس بين القبور لعقود، فهذا ليس مجرد فشل بل نظام اجتماعي يختار من يعيش وكيف يعيش.

لقد أصبحت المقابر في كثير من المدن العربية والآسيوية، مرآةً للفجوة الطبقية، ومؤشرًا مرعبًا على مدى هشاشة "حق السكن" حين يُصبح الحيّ ميتًا بالمعنى السياسي والاقتصادي.

أحدث أقدم
🏠