
في زمن الجهاد المفرّغ من بصيرته، خرج عبد الله عزام ليعيد للفكرة معناها، وللبندقية هدفها. لم يكن مجرد مُحرّض على القتال، بل مُنظّرًا لرؤية جهادية تنطلق من واقع الأمة وتاريخها، وتطمح لتحرير إرادتها لا لحرق أوطانها. جمع بين العلم الشرعي والتجربة الميدانية، وساهم في إحياء روح الجهاد العالمي ضد الغزو السوفيتي في أفغانستان. لكن مشروعه لم يكن لحظة عابرة، بل محاولة لصياغة عقيدة مقاومة تستعصي على الاستغلال. وبين الإيمان والثورة، ترك عزام فكرًا لا يزال محل جدل: هل اغتيل جسده فقط، أم اختُطف مشروعه أيضًا؟
لكن عبد الله عزام كان من القلائل الذين فهموا أن الجهاد ليس مجرد قتال، بل فكرة تستمد قوتها من معنى النصرة، لا من عدد السلاح.
لم يكن عسكريًا محترفًا، ولا زعيمًا سياسيًا، بل داعية يحمل همّ الأمة فوق كتفيه، ويؤمن أن الإسلام لا يُدافع عنه بالكلام فقط، بل بالفعل الصادق.
من الدعوة إلى الجبهة: انقلاب الفكرة إلى مشروع
في زمن كانت فيه القضية الأفغانية هامشًا في نشرات الأخبار،
كان عزام يرى فيها قلبًا نابضًا لا لقضية أفغانستان وحدها، بل لكرامة الأمة كلها.
ترك التدريس في الجامعة، وذهب إلى الجبال، لا ليمسك بندقية فقط، بل ليبني مدرسة،
مدرسة تصنع المجاهد لا فقط المقاتل،
تُخرّج رجالًا يعرفون لماذا يقاتلون،
رجالًا تسبقهم النية وتتبَعهم الفكرة، لا تُغريهم غنائم، ولا تحرّكهم عصبيات.
لم يكن مؤسسًا للقاعدة… بل لفكرة أن الأمة لا تموت
غالبًا ما يُختصر عبد الله عزام بعنوان خاطئ:
"عرّاب الجهاد"، أو "الممهد للقاعدة"،
وهذا ظلم للرجل وفكره.
لأن عزام كان يرى في الجهاد وسيلة لتحرير المستضعفين، لا لتكفير الناس ولا لتفجير المدن.
كان يقول:
"الأمة التي لا تجاهد، أمة ميتة، والحياء من الله يوجب أن نذود عن أعراض المسلمين كما نذود عن أعراض أمهاتنا."
لكنه أيضًا كان يؤمن أن الجهاد بدون أخلاق، يتحول إلى فوضى مسلّحة.
ولهذا اصطدم بالفكر الانقلابي، ورفض استغلال الجبهات لتصفية الحسابات،
وكان يربي الشباب على أن أعظم ميادين الجهاد: جهاد النفس، قبل أن يكون جهاد السلاح.
لماذا اغتيل عبد الله عزام؟
لأنه كان خطرًا على المشاريع التي تريد جهادًا بدون وعي.
على الأنظمة التي تخاف من الفكرة أكثر من الرصاصة.
على التيارات التي تريد الشباب وقودًا لا روادًا.
لم يكن رجل دولة، لكنه كان مشروع وعي، والوعي أخطر من الجيوش.
اغتيل قرب المسجد، ومعه اغتيل الحلم أن تكون الجبهات منابر، لا مقابر.
لكن فكرته بقيت، وانتشرت، وإن حملها أحيانًا من لا يُحسن حملها.
بين الاستلهام والاستغلال
فرقٌ كبير بين من يستلهم عزام ليوقظ أمة،
ومن يستغل اسمه ليُبرّر تطرفًا أو يخفي مشروعًا.
لم يكن عزام داعيةَ عنف، بل داعية نصرة.
لم يكن حالمًا بخلافة متعجّلة، بل صوتًا صادقًا يُذكّر أن الأمة لا تموت ما دامت تنجب رجالًا يعرفون متى يقفون، ومتى يقاتلون.