
في التاريخ لحظات لا تموت، لأنها لا تتكرر. لحظات تنكشف فيها طبيعة الأشياء، لا من خلال الشعارات، بل عبر الفعل المجرد… أو الغياب الصامت.
وأكثر اللحظات فداحة هي تلك التي يُقابَل فيها الإصرار على الشهادة، بالتلكؤ عن تسليم رصاصة.
عبد القادر الحسيني، لم يكن مجرد قائد ميداني في زمن الانهيار، بل كان يقاتل ومعه وهمٌ نبيل: أن في العواصم العربية شيء من فلسطين، وأن في غرف المؤتمرات شيء من البارود.
لكنه اكتشف أن البارود هناك محفوظ في الخزائن، لا للعدو، بل للطوارئ التي تُحدّدها السلطة.
في الأيام الأخيرة قبل معركة القسطل عام 1948، سافر الحسيني إلى القاهرة، إلى جامعة الدول العربية تحديدًا، ليطلب ما يطلبه كل قائد في لحظة انكسار الجبهة: السلاح، فقط السلاح.
لكنه قوبل بالبرود، بالتجاهل، بالشك، بالانتظار الذي لا يُثمر.
فقال كلمته التي اختزلت وجدان جيل بأكمله:
"لقد تركتم شعبًا أعزل يُذبح، أعطوني السلاح وسأحرر فلسطين."
لكن السلاح لم يُسلَّم.
عاد إلى ساحة القتال لا بخُطة جديدة، بل بوعي مختلف: أن المعركة لم تكن فقط مع الاحتلال، بل مع جغرافيا أوسع من فلسطين، جغرافيا مُفرغة من الإرادة.
قاتل بما لديه، واستُشهد، وبهذا تحوّل جسده إلى وثيقة، ودمه إلى سطر في نصٍّ كبير لم يُكتب بعد.
لم تكن استشهاد الحسيني هزيمة، بل كشفًا. فقد كشف لنا أن المعركة الحقيقية لم تكن في القسطل وحدها، بل كانت أيضًا في دهاليز السياسة العربية، حيث تُصنَّف الأولويات لا حسب الحق، بل حسب كلفة المواجهة.
الرصاصة التي لم تُسلَّم ليست مجرد ذخيرة مادية، بل رمز لخيانة المعنى.
إنها الرصاصة التي كانت ستمنح المقاتل فرصة متكافئة، لا للنجاة، بل للمقاومة بشرف.
لكنهم لم يسلموها… لأن النصر في يد شعب حرّ، كان يعني حينها هزيمة أنظمة صُنعت لتضبط الإيقاع لا لتطلق النيران.
لقد استشهد عبد القادر، لكن لم يمت، لأن موته أصبح سؤالًا معلّقًا فوق كل شعار:
هل نحن وحدنا؟
أم أننا محاطون بأشقاء يَخشَون أن ننتصر، كما يخشى العدو أن لا يُهزَم؟
هذا السؤال لم يجب عليه التاريخ بعد، لأن التاريخ يكتب أحيانًا بالدم، وأحيانًا بالصمت.
لكننا نعلم أن رصاصة لم تُسلَّم، كانت كافية لتكشف مئة وجه.
وصف الصورة المقترحة:
لوحة رمزية تُظهر مقاتلًا فلسطينيًا على تلة مرتفعة، يلوّح بيده كأنه يطلب شيئًا، بينما في البعيد عواصم عربية تكتفي بالمراقبة من خلف النوافذ. في يده بندقية مكسورة، وتحت قدميه خريطة فلسطين. السماء ملبدة، لكن خلفه شمس خافتة ترمز للأمل.