
في رحلة فكرية وروحية امتدت من فيينا إلى مكة، ومن الصحراء إلى الأمم المتحدة، قدّم نموذجًا نادرًا لإنسان يبدّل وجهته دون أن يفقد بصيرته.
محمد أسد، الذي وُلد يهوديًا نمساويًا، لم يكن مجرد مُعتنق جديد، بل مفكّر تحوّل بعمقٍ وجودي، فهجر حضارة الحداثة لا هروبًا، بل بحثًا عن معنى.
كان إسلامه عقلانيًا، لا عاطفيًا، وترجمته للقرآن ليست ترجمة لغوية، بل رؤية لفهم الدين كمنظومة تحرير للعقل والروح.
قصة محمد أسد ليست فقط عن إسلام فرد، بل عن إمكانات الإسلام الكامنة في مخاطبة الإنسان الحديث إن نُزع عنه غبار التقليد والسلطة.
من قلب أوروبا إلى قلب الإسلام
ولد محمد أسد (1900–1992) في أسرة يهودية نمساوية مثقفة، ودرس التوراة والآداب العبرية، ثم الفلسفة الأوروبية. عمل مراسلًا صحفيًا في الشرق الأوسط لحساب كبرى الصحف الألمانية، وهناك، وسط صحراء الجزيرة وحواضر الشام، بدأ يشعر أن ما في الإسلام من بساطة ويقين ومعنى، يتفوق على كل ما عرفه من أنساق فكرية غربية.
في عام 1926 أعلن إسلامه، وسمّى نفسه محمد أسد، في مكة، لا في أحد مراكز الاستشراق أو دوائر التبشير، بل في أقدس بقعة عند المسلمين. ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلته الطويلة بين الجزيرة العربية، والهند، وأفغانستان، وإيران، ثم باكستان، وأخيرًا إسبانيا.
أكثر من مسلم جديد
لم يكن محمد أسد مجرد يهودي أسلم، بل عقلًا نقديًا حرًا، جمع بين التبحر في الإسلام، والقدرة على تقديمه بلغة الغرب ومنطقه. كتب سيرته الذاتية الفريدة "الطريق إلى الإسلام" (The Road to Mecca)، والتي تحوّلت إلى نص كلاسيكي في أدب التحول الفكري والروحي.
وفي ترجمته لمعاني القرآن "The Message of the Qur’an"، قدم واحدة من أعمق وأقرب الترجمات إلى روح النص، مستخدمًا لغة فلسفية ومعاصرة تُخاطب العقل الغربي.
من الصحارى إلى الأمم المتحدة
في مطلع الأربعينيات، بعد أن أقام زمنًا في الهند، انخرط محمد أسد في مشروع تأسيس باكستان، كدولة للمسلمين الهنود. وشارك في النقاشات الفكرية والدستورية الأولى حول شكل الدولة وهوية الأمة. ثم مثّل باكستان سفيرًا في الأمم المتحدة، لكنه سرعان ما انسحب من العمل السياسي بعد أن رأى الهوة بين المبادئ المعلنة والواقع السلطوي.
عزلة الفكر… لا عزلة الروح
بعد انسحابه من الساحة السياسية، اختار محمد أسد حياة شبه منعزلة في سويسرا ثم المغرب، وأخيرًا في غرناطة الإسبانية. ظل يكتب ويتأمل حتى وفاته عام 1992. وبدل أن يُدفن في دولة إسلامية، اختار أن يُدفن في أرض الأندلس، وكأنه أراد أن يُغلق حلقةً تاريخيةً بدأت منذ ألف عام، حين كان الإسلام في الأندلس رمزًا للفكر والحضارة والتسامح.
ختام
قصة محمد أسد ليست قصة تحول ديني فقط، بل سيرة عقل تحرر من قيود الهويّات المغلقة، والأنماط الجاهزة، والولاءات الأيديولوجية.
هو الرجل الذي جاء من عمق الحداثة الأوروبية، ليجد في الإسلام لا فقط إجابةً روحية، بل منظومة عقلانية ونقدية راقية.
هو رمزٌ لكل من يريد أن يرى الإسلام لا كتراثٍ محنط، بل كدعوةٍ مفتوحة للعقل والحرية.
وصف الصورة المقترحة: صورة رمزية لرجل يخلع نظارات أوروبية الطراز، ويتأمل في مصحف مفتوح على خلفية شرقية، يظهر خلفه تداخل بين معالم الغرب (مثل ساعة بيغ بن أو كاتدرائية) ومآذن شرقية، في توازن فكري روحي.