
في الماضي، كان الذوق يُبنى عبر التربية، والبيئة، والثقافة، والتجربة.
كان اختيارك لما تحب، أو تكره، أو تفضّل، ناتجًا عن وعيك الذاتي وتفاعلك مع عالمك الخاص.
أما اليوم، فالسؤال صار أكثر إلحاحًا: هل نحب ما نحبّه فعلًا؟ أم نحب ما صُمِّم لنا أن نحبه؟
عصر التسويق لم يكتف ببيع السلع، بل بدأ بإنتاج الرغبات نفسها.
وهكذا، صار الإنسان لا يختار ذوقه، بل يُسوَّق له، ويُشكَّل على مقاس ما يُراد منه.
الذوق ليس عشوائيًا: إنه بنية ثقافية
الذوق ليس مجرد “مزاج” لحظي أو “رغبة شخصية”، كما يُروَّج.
بل هو تركيبة عميقة تتشكل من:
- ما تعلمته منذ طفولتك،
- ما رُسِّخ فيك عبر القصص والمجتمع،
- وما اكتشفته بالتجربة الذاتية.
بمعنى آخر: الذوق انعكاس للهوية.
ولذلك، فإن من يتحكم في ذوقك، يتحكم في كثير من قراراتك دون أن تشعر.
التسويق الحديث: تشكيل لا ترويج
الخطير في التسويق اليوم ليس أنه يُقنعك بشراء شيء، بل أنه يصنع لديك الحاجة لما لم تكن تحتاجه أصلًا.
إنه يُربّي الذوق لا يلبّيه.
ويفعل ذلك عبر أدوات ناعمة:
- القصص الإعلانية لا مجرد المنتجات،
- ربط الاستهلاك بالقيمة الذاتية،
- التكرار والانتشار لخلق “الإجماع الزائف”،
- تحفيز الشعور بالنقص الدائم، ثم اقتراح الحل الجاهز.
وبذلك، يصبح المنتج الذي تريده هو ما صُمِّم أن تريده، لا ما اخترته بوعيك.
من التسويق التجاري إلى الثقافي
لم يَعُد الأمر مقتصرًا على بيع الأحذية والعطور.
بل تجاوز إلى:
- الموسيقى التي تُسمع،
- الأفلام التي تُشاهد،
- الكتب التي يُنصح بها،
- وحتى القيم التي تُروَّج.
كل ما يُعرض عليك قابل للتسويق، وكل ما يتكرر أمامك يصبح مع الوقت "ذوقًا عامًا"، و"تفضيلًا شخصيًا" دون أن تدري أن اختياراتك قد صيغت سلفًا.
الذوق الجماعي: حين يَفرض الترند عليك ذوقك
يُقال لك: "اسمع هذا"، "شاهد ذاك"، "تعرّف على هذا الفن"،
ويبدو الأمر بريئًا… حتى تدرك أن "الترند" لم يصنعه الناس، بل صُنع لهم.
فـ"الذوق العام" اليوم لا يُعبّر عن حقيقة داخلية، بل عن إجماع مبرمج ومصنوع بإحكام عبر الإعلام، والإعلانات، وشبكات التأثير.
الخطير هنا أن مخالفة هذا الذوق المصنوع تُوصف بالتخلّف، أو الغرابة، أو الانفصال عن الواقع.
تزييف المعايير الجمالية: من الفن إلى التفاهة اللامعة
حين يُترك الذوق لآلة السوق، فإن ما يُحتفى به ليس الأجمل، بل الأكثر قابلية للبيع.
وهكذا، تنتشر:
- أغاني بلا مضمون لأنها أسهل انتشارًا،
- مسلسلات سطحية لأنها تُرضي الجميع،
- رموز تافهة لأنها لا تُخيف أحدًا،
- وكتب ركيكة لأنها تُستهلك سريعًا.
النتيجة: تشويه الذوق العام، حتى يُصبح العميق مملًا، والسطحي عبقريًا، والتفاهة شكلًا من أشكال الإبداع.
من التسويق إلى التوجيه السلوكي
في مرحلته الأخطر، يتحوّل التسويق إلى هندسة للسلوك والخيال.
لم يعد يكفي أن تشتري ما لا تحتاجه، بل يُعاد تشكيل طموحاتك، أحلامك، وحتى تعريفك للنجاح والجمال والحب.
وبهذا، يصبح الإنسان نسخة مُعلَّبة من نفسه، مطابقة للذوق السائد الذي لم يختره.
كيف نقاوم إعادة تشكيل أذواقنا؟
- بالتوقف عن التلقّي العشوائي،
- بسؤال بسيط: "هل أنا أحب هذا حقًا؟ أم لأن الجميع يفعل؟"
- بالعودة للتجربة الذاتية المباشرة،
- بالاحتكاك بثقافات أصيلة غير ممسوخة،
- وبالإيمان بأن الذوق ليس فقط ما نرتاح له، بل ما نبنيه ونتذوقه بوعي.
خاتمة
الذوق ليس تفصيلًا جانبيًا في هوية الإنسان، بل بوابة إعادة تشكيله بالكامل.
وحين تفقد القدرة على تمييز الجميل من المشوّه، والنافع من الضار، يصبح كل شيء مستساغًا،
ويُصبح الإنسان غريبًا عن نفسه، يُحب ما لا يليق به، ويشتهي ما لا يخدمه، ويعيش في وهم أنه "يختار"، بينما هو يُقاد.