تفكيك الهوية: حين يصبح الإنسان بلا مرجعية

سلسلة: الإنسان المُعاد تشكيله:

لم يكن الإنسان يومًا صفحة بيضاء.

منذ وُجد، وُجد حاملًا لهوية: دين، لغة، تاريخ، أرض، ذاكرة، سردية، وانتماء.
لكن الحداثة لم تكتف بتفكيك المجتمع… بل شرعت في تفكيك الإنسان ذاته، عبر ضرب مرجعيته الأولى: هويته.

اليوم، يَكبر الإنسان وسط ثقافة تجعله يُشكّك بكل ما ورثه، ولا تُعطيه بديلًا إلا "نفسه"…
لكن الإنسان بلا جذور، لا يُزهر، بل يُقتلع.


ما الهوية؟ ولماذا هي أكثر من بطاقة تعريف؟

الهوية ليست مجرد "تعريف إداري" أو "اسم على جواز سفر".
إنها بنية داخلية تتكون من عناصر متداخلة:

  • الدين الذي يحدد مركزك الأخلاقي،
  • اللغة التي تصوغ طريقة تفكيرك،
  • التاريخ الذي يمنحك امتدادًا،
  • الثقافة التي تُشكل ذوقك وفهمك للعالم.

الهوية هي الإطار الذي يُعطيك اتجاهاً حين تتداخل الطرق، ويمنحك ثباتًا حين تهبّ رياح الفوضى.


مشروع التفكيك: كيف ولماذا؟

لم يكن تفكيك الهوية نتيجة عفوية، بل مشروعًا فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا.

  • الحداثة الغربية أرادت "إنسانًا عالميًا"، لا منتميًا.
  • السوق أراد "مستهلكًا حرًّا"، لا صاحب انتماء يقيد اختياراته.
  • الأنظمة أرادت "فردًا محايدًا"، لا يحمل ولاءً أعلى من الدولة.

ولتحقيق ذلك، كان لابد من ضرب المرجعيات الثلاث:

  1. الدين: باعتباره مصدرًا للثبات والرفض.
  2. اللغة: باعتبارها وسيلة إنتاج وعي مستقل.
  3. الذاكرة: لأنها تحرّض الإنسان على المقارنة والمساءلة.


الإنسان الجديد: قابل لإعادة التشكيل دائمًا

حين تُنتزع الهوية، يصبح الإنسان مادة طيعة قابلة للصب في أي قالب.

  • يغيّر أفكاره بسهولة، لأنه بلا جذور فكرية.
  • يستهلك ما يُعرض عليه، لأنه لا يملك ذوقًا متماسكًا.
  • يتبع من يصرخ أكثر، لأنه بلا بوصلة.
  • يُشكك في كل شيء، لكنه لا يُؤمن بأي شيء.

هكذا يتحوّل من "إنسان حامل لسردية" إلى منتج قابل للتعديل حسب الاتجاه العالمي.


تفكيك الهوية كسلطة ناعمة

ليست المشكلة فقط في تفكيك الهوية، بل في ما يحل محلها بعد التفكيك:

  • الهوية الفردانية المفرغة،
  • الهويات المصنوعة إعلاميًا (الموضة، النوع، السوشيال ميديا...)
  • هوية الضحية الدائمة، التي تُغري بالتذمر لا بالبناء.
  • هوية "اللحظة" بدل التاريخ.

وبذلك، يُعاد تشكيل الإنسان ليكون مُستهلَكًا ثقافيًا، لا صانع ثقافة.


الشعور بالضياع ليس صدفة

كثيرون اليوم يشعرون بالضياع، لا لأنهم فقدوا الطريق، بل لأن الخرائط سُرقت من داخلهم.
إن فقدان الهوية ليس مجرد حالة نفسية، بل أزمة وجودية.

الضياع يولّد القابلية للاستلاب، والتطرف، والانهيار.
فمن لا يعرف من هو، لا يعرف من عدوه، ولا ما الذي يجب أن يقاومه أو ينهض لأجله.


استعادة الهوية: لا حنين… بل بعث

استعادة الهوية لا تعني العودة للماضي بصورة جامدة.
بل تعني إعادة بعث العناصر العميقة للانتماء، بما يمنح الإنسان اتساقًا داخليًا وقوة في وجه التشكيل الخارجي.

الهوية ليست سجنًا كما تروج الحداثة، بل حائط صدّ يحمي الإنسان من الذوبان، ويمنحه مكانًا في العالم.


خاتمة

حين يُجرد الإنسان من هويته، لا يُصبح حرًا… بل تائهًا.
وحين يُمنع من أن يروي قصته، يُصبح ضيفًا في حكاية غيره.
والتحرر الحقيقي يبدأ من الداخل: من استعادة الذاكرة، واللغة، والسردية، والإيمان بأننا لسنا منتجات عابرة، بل ورثة حضارة، وحَمَلة رسالة.



عناوين في السلسلة : 

  1. من الذات الحرة إلى الفرد المعزول
  2. كيف صارت الأخلاق "رأيًا شخصيًا"؟
  3. تفكيك الهوية: حين يصبح الإنسان بلا مرجعية
  4. التسويق والذوق: من يقرر ما نحب؟
  5. ثقافة اللقطة: انقراض العمق في زمن السرعة
أحدث أقدم