
هل تساءلت يومًا كيف تحوّلت الأخلاق من معيار مشترك يحكم الجماعة، إلى "رأي شخصي" يختاره كل فرد بحسب هواه؟
في زمنٍ ما، كان الخير معروفًا، والشر منكرًا، والمجتمع يملك حسًّا أخلاقيًا مشتركًا.
أما اليوم، فقد بات كل سلوك قابلًا للتبرير، وكل انحراف يُقدَّم كخيار، وكل رأي يُسوَّق كحقيقة ذاتية غير قابلة للنقاش.
ما الذي جرى؟ وكيف أعادت الحداثة تشكيل الضمير الأخلاقي للإنسان؟
الأخلاق القديمة: ميزان مشترك لا رأي فردي
في الحضارات التقليدية، كانت الأخلاق تُستمد من:
- الدين،
- العُرف،
- التجربة الجمعية،
- والمرجعية العليا (الإله أو الحكمة).
كان هناك إجماع ضمني على المبادئ الأساسية، ولو اختلف الناس في التفاصيل.
لم تكن الأخلاق "ذوقًا"، بل مسؤولية تجاه الذات والآخر والمجتمع.
تفكيك المرجعية: الأخلاق بعد موت المعنى
لكن الحداثة بدأت بتفكيك هذه المنابع:
- الدين نُزِع من المجال العام، وصار "شأنًا خاصًا".
- العُرف عُدّ رجعية وتخلفًا.
- التجربة الجمعية سُخِر منها في الإعلام.
- المرجعية العليا حُلت محلها النسبية الفردية.
هكذا لم يعد للأخلاق مركز، ولا أساس ثابت، بل صار كل فرد يصوغ "قيمه" الخاصة بحسب مزاجه، تجاربه، أو حتى رغبته المؤقتة.
النسبية الأخلاقية: حين يتساوى الخير والشر على طاولة "الآراء"
ظهرت النسبية بوصفها شعارًا عصريًا للحرية، لكنها عمليًا أدت إلى:
- إلغاء الحدود بين الصواب والخطأ،
- مساواة كل الخيارات على أنها "قابلة للفهم"،
- تجريم الحكم الأخلاقي بذريعة "عدم التطفل"،
- اختزال الأخلاق في "عدم الأذى الفوري"، ولو كان الأذى طويل الأمد ومعنويًا.
النتيجة؟
إنسان لا يملك بوصلته، ولا يجرؤ على الإنكار، ولا يفهم الفرق بين الاحترام والاستسلام للفوضى.
السوق والأخلاق: حين تُسوَّق الرذيلة باسم "الخيار"
الرأسمالية الحديثة لا تزدهر في بيئة أخلاقية صارمة، بل في نسبية أخلاقية مطّاطة.
لماذا؟
لأن الأخلاق الثابتة تحدّ من الاستهلاك، وتدفع الإنسان إلى مقاومة الشهوة، والتفكر في العواقب، والارتباط بقيم غير قابلة للبيع.
لكن حين تصبح الأخلاق "اختيارًا فرديًا"، يُصبح كل شيء ممكنًا:
- الجسد سلعة،
- العلاقات صفقة،
- المبادئ مرنة،
- والذوق يُشكَّل بالإعلانات، لا بالفطرة.
الأخلاق الجديدة: استبدال الحلال بالـ"مقبول اجتماعيًا"
اليوم، لا يُسأل الإنسان: "هل هذا صواب؟"، بل: "هل هذا مقبول؟"
وهذا "القبول" لا يُحدده الدين أو العقل، بل الترند، والإعلام، وشبكات النفوذ.
وهكذا:
- يصبح الانحراف عاديًا لأنه منتشر،
- ويُتهم الصادق بـ"الرجعية"،
- وتُسحق الحجة أمام "الشعور".
لقد قُتلت الأخلاق لا بالهجوم المباشر، بل بالتبسيط، والتشويش، وتذويب المعايير.
ما بعد الأخلاق: إنسان مشوّه لا يشعر بالخجل
في هذا السياق، لم يَعد الإنسان يُخطئ، بل يبرّر.
لم يَعد يُذنب، بل يطالب بالقبول.
ولم يَعد يندم، بل يفتخر بخياراته مهما كانت.
النتيجة: إنسان بلا مرآة، بلا وازع، بلا خجل.
وهو الأخطر، لأن المجتمع لا ينهار حين يُذنب الناس… بل حين يتوقفون عن رؤية الذنب أصلاً.
خاتمة
حين تُفقد الأخلاق مرجعيتها، لا يبقى إلا الهوى، والرغبة، والمزاج، كأدوات توجيه.
وحين يصير كل شيء "رأيًا شخصيًا"، يصبح الإنسان عاجزًا عن البناء، والتعاون، والتماسك.
إن أول خطوة نحو استعادة إنسانيتنا ليست فرض الوصايا، بل إحياء الأسئلة العميقة: ما الخير؟ ما العدل؟ ما الإنسان؟
فمن لا يسأل، لا يهتدي.