هروب الإسرائيليين: هل أصبح ممنهجًا؟

في الحروب الكبرى، تفرّ الشعوب من القذائف، لكن في الحروب الوجودية، لا يفرّ إلا مَن فقد الإيمان بمن يحميه.

وفي الحالة الإسرائيلية، باتت مشاهد الهروب الجماعي من البلد، أو من الجنوب نحو الشمال، أو من الشمال نحو أوروبا، ظاهرة تستحق الوقوف أمامها، لا كحالات فردية، بل كأعراض خلل عميق.

أولًا: من الهروب التكتيكي إلى النزوح النفسي

إسرائيل كانت دائمًا تُفاخر بأنها "الدولة الوحيدة الآمنة لليهود"، وأن الجيش سيحميهم مهما كانت الظروف.
لكن في العقود الأخيرة، وخصوصًا بعد حرب غزة 2023 و2024، ثم مع تصاعد المواجهة مع حزب الله وإيران، حدث التالي:

  • هروب آلاف الإسرائيليين من مستوطنات الجنوب (غلاف غزة) نحو الفنادق والشمال.
  • نزوح من الشمال بسبب الصواريخ الدقيقة من لبنان.
  • زيادة طلبات الهجرة العكسية إلى أوروبا وكندا وأمريكا.
  • تقارير عن عائلات تحتفظ بجواز سفر أجنبي ومغلفات "الفرار" تحسّبًا لانهيار مفاجئ.

هذا لم يعد مجرد "خوف طبيعي" بل تحوّل إلى نمط مدروس للصمود المؤقت مع خطّة انسحاب.

ثانيًا: هل هو سلوك فردي أم توجّه جمعي؟

في البداية، كان يُنظر إلى الهاربين على أنهم حالات شاذة أو "ضعاف الإيمان بالمشروع الصهيوني".
لكن الواقع تغيّر. الآن:

  • هناك شركات إسرائيلية تعرض تسهيلات للهجرة.
  • بعض وسائل الإعلام العبرية بدأت تناقش "خيار الهروب" بصراحة.
  • الحكومة نفسها تنقل المستوطنين من أماكنهم دون مقاومة تذكر، ما يدل على أن هناك قبولًا ضمنيًا بأن الدولة لا تستطيع أن تكون مظلّة حماية شاملة.

إذًا، الهروب لم يعد انكسارًا فرديًا، بل تحوّل إلى مسار صامت مقبول ضمنيًا.

ثالثًا: لماذا يتفكك الشعور بالأمان؟

  1. انهيار صورة الجيش الذي لا يُقهر، خاصة بعد اختراقات 7 أكتوبر.
  2. انكشاف الجبهة الداخلية على صواريخ دقيقة وبعيدة المدى.
  3. الانقسام الداخلي العميق (بين اليمين الديني والعلماني، وبين الأشكناز والمزراحيم، إلخ).
  4. فقدان الثقة في القيادة السياسية التي تتعامل مع الأزمات بمنطق النجاة الشخصية.
  5. تراجع الحلف الأمريكي عن التدخل الكامل لحماية إسرائيل، أو على الأقل تباطؤه.

رابعًا: لماذا هذا السلوك خطير على إسرائيل؟

لأن إسرائيل قامت على فكرة واحدة: أنها الملاذ الآمن الأخير.
فإذا تحوّل هذا الملاذ إلى محطة مؤقتة بعيون سكانه، فقد انتهى جوهر المشروع.
إن مشروعًا استيطانيًا لا يصمد إلا إذا شعر المستوطن أن الحماية مضمونة، والردع فوري، والدولة أقوى من أي خطر.

أما حين يُدخِل الناس جوازات سفر أجنبية في جيوبهم، فإنهم لا يعيشون في "وطن"، بل في مكان تجربة مشروطة بالهدوء.

الخلاصة:

نعم، الهروب الإسرائيلي لم يعد حالة فردية، بل أصبح ممنهجًا بصمت.
من خلال النزوح الداخلي، وثقافة التحوّط، والاحتفاظ بخطط الهروب، وحتى عبر الخطاب العام نفسه.

وكلما استمرت المقاومة في كشف عجز الجيش، وكلما فقدت الدولة قدرتها على تقديم الحماية، تتآكل القناعة الوجودية بالبقاء.

فالمعادلة في إسرائيل لم تعد: "البقاء هنا رغم الخوف"،
بل: "البقاء ما دام الخوف تحت السيطرة".

سلسلة: الاحتلال حين يهتزّ: مقالات في تفكك المشروع الصهيوني

أحدث أقدم