
أما اليوم، فقد تغيّر المشهد تمامًا:
جيلٌ جديد من المستوطنين وُلد في رفاهية، ونشأ في ظل قبة حديدية، واعتاد على دولة تلبّي مطالبه… لكنه لا يملك ما يكفي من القناعة أو التضحية ليبقى في وجه الخطر.
المستوطن الجديد ليس ابن المشروع، بل ابن اللحظة.
من القناعة العقائدية إلى الامتياز الشخصي
المستوطن الأول جاء من أجل "حلم"، كان يرى في كل شجرة يُزرعها طقوس الخلاص، وفي كل معركة يخوضها امتحان إيمان.
أما المستوطن اليوم، فغالبًا ما جاء لأن البيت في أراضي الضفة أرخص، أو لأن المدرسة الدينية توفر له امتيازات، أو لأن الدولة تدعمه بالمال والسلاح.
هو لا يرى نفسه حارسًا للمشروع، بل مستفيدًا من الوضع القائم.
ولذلك، حين تهتز الأرض، لا يتحرك إلى الأمام… بل يبدأ بالحساب:
- كم صاروخًا سقط؟
- هل أخبَرَتنا الدولة متى نُخلى؟
- هل الملاجئ جاهزة؟
- أين جواز سفري الثاني؟
الهشاشة النفسية: مستوطن يُحمى... لا يقاتل
الجيل الجديد من المستوطنين لا يتحمّل غياب الكهرباء ليوم، ولا صوت صفارة الإنذار لليلة.
وفي كل مواجهة كبرى، لا يذهب إلى خطوط النار، بل يُنقل إلى فنادق آمنة في الداخل.
أصبح المستوطن عبئًا لوجستيًا على جيشه، لا عنصرًا داعمًا له.
وفي حالات كثيرة، يُصرّ المستوطنون على العودة فقط إذا ضمنت الدولة لهم الأمان الكامل، وهو ما يعكس خللًا جوهريًا:
المستوطن الذي جاء ليغرس المشروع، أصبح يحتاج لمن يغرسه فيه كل مرة.
حين يصبح الاستيطان وظيفة لا عقيدة
في الماضي، كان الدخول في المستوطنات يُعد مغامرة عقائدية، محاطة بالخطر.
اليوم، تحوّلت إلى عقارات مدعومة، وحياة مرفّهة خلف جدران، ومحميات عسكرية يحرسها الجنود.
ولذلك، حين تشتعل غزة، أو يُقصف الشمال، يصبح الحديث ليس عن "المعركة"، بل عن "الخسائر العقارية"، و"جدول التعويضات"، و"أرقام الفنادق".
بعبارة دقيقة:
المستوطنات اليوم لا تُدار كخنادق... بل كمنتجعات.
الخلاصة: مشروع بلا رواد... إلى زوال
هذا المستوطن الجديد لا يحمل روح "الوكالة الوجودية" التي روّجت لها الصهيونية.
هو لا يريد أن يقاتل، ولا أن يصبر، ولا أن يفقد شيئًا.
فإن تزعزعت الحماية، أو ارتفعت كلفة البقاء، فهو أول من يرحل.
وهكذا، فإن مشروعًا استيطانيًا فقد القناعة في قلب مستوطنيه، هو مشروع في طريقه للذوبان، ولو بقي مدعومًا بالدبابات.
إن أخطر ما يهدد الاحتلال ليس المقاومة... بل أن يصبح المستوطن نفسه غير مستعد للموت من أجل الحلم الذي بُني باسمه.