لم تولد السيخية من عزلة نبيٍ في كهف، ولا من تجربة روحانية عميقة خارج الزمان السياسي. بل تشكّلت، تدريجيًا، كإجابة عملية على صراع عنيف بين إمبراطوريات وجماعات مضطهدة تبحث عن هوية ومكان. ما بدأ كدعوة تأملية على يد "نانك" تحوّل إلى عقيدة قتالية صلبة في عهد الغورو العاشر، صيغت شعائرها وطقوسها لا للسمو الروحي، بل للجاهزية العسكرية. لقد نشأ الدين هنا ليخدم وحدة قومية مسلّحة، في لحظة توتّر حاد بين المسلمين المغول والهندوس المقموعين. إنها حالة نموذجية لدين لم يصعد من السماء، بل نهض من قلب الصدام، واكتملت شعائره في ميدان الحرب.
من تأمل صوفي إلى جيش عقائدي
تبدأ القصة مع "غورو نانك" في القرن الخامس عشر، رجل تأمل وتسامح تأثر بالإسلام الصوفي والهندوسية الفيشونية. لكن هذه البذرة الروحية ستُختطف لاحقًا في مسار سياسي عسكري واضح، خصوصًا في عهد الغورو العاشر "غوبيند سينغ"، الذي أعلن ميلاد طائفة السيخ كمجموعة مقاتلة ذات رموز ولباس وأسلوب عيش مختلف. لقد أسّس ما يُعرف بـخالصا (Khalsa)، وهو نظام ديني-عسكري يفرض على أتباعه حمل السلاح، واتباع سلوكيات قتالية، وتبنّي هوية مميزة في الشكل والاسم والولاء.
وظيفة الدين: خلق هوية قتالية هندوسية-إسلامية هجينة
لم يكن هدف الغورو العاشر بناء عقيدة معرفية أو أخلاقية جديدة، بل تشكيل "أمة مسلّحة" قادرة على مواجهة المغول المسلمين، وفي الوقت ذاته، تحصين الهندوس ضد الانقسام الداخلي. لذلك جمعت السيخية بين الطقوس الهندوسية (مثل التناسخ والكارما)، والمفاهيم الإسلامية (التوحيد، التسامح، رفض الوثنية)، مع شحنة عسكرية تربط الدين بالكرامة والقتال. هذا التهجين لم يكن عبثيًا، بل مقصودًا: خلق دين جديد يجذب الطرفين، ويكسر حاجز الولاء السابق لصالح هوية واحدة تقاتل.
التحوّل من عقيدة إلى دولة
مع الوقت، تحولت السيخية من طائفة دينية إلى مشروع سياسي واضح. أسس السيخ مملكة قوية في البنجاب بقيادة رانجيت سينغ، وقاتلوا المسلمين والبريطانيين والهندوس في مراحل مختلفة. لقد كانت الدولة السيخية ثمرة حقيقية لهذا الدين المصنوع، الذي وُلد في حضن المعركة، واستمر كجهاز تعبئة، أكثر مما كان طريقًا إلى الخلاص. حتى اليوم، لا تزال السيخية مرتبطة بالهوية القومية البنجابية، وتُستخدم سياسيًا في صراعات الهند الداخلية والانفصالية.
دين على مقاس الصراع
تُظهر السيخية بوضوح كيف يمكن لدين أن يُخترع لغرض محدد، ثم يُقدّس تدريجيًا حتى يُنسى هدفه الأول. لقد صيغت الطقوس، والأسماء، والملابس، وحتى تصفيفة الشعر، ضمن منطق تعبوي عسكري محض. الهدف لم يكن نجاة الروح، بل نجاة الجماعة. وحين يؤدي الدين هذه الوظيفة، لا يعود السؤال: هل هو حق؟ بل: هل هو نافع سياسيًا؟ وفي هذا السياق، تُصبح السيخية نموذجًا نقيًا لـدين الوظيفة السياسية، لا دين الرسالة.
سلسلة: دين الوظيفة السياسية