دين الوظيفة السياسية: البهائية: ديانة السلام التي وُلدت في ظل القمع، ونجت بفضل الدبلوماسية

لم تولد البهائية كدينٍ مستقلٍ فجأة، بل نبتت من قلب الاضطرابات الفكرية والسياسية في إيران القرن التاسع عشر، حيث كانت الدولة القاجارية تتأرجح بين تقاليدها الدينية ومخاوفها من الانقسام الداخلي. ومع أن البهائية تُقدِّم نفسها كرسالة عالمية للسلام والوحدة، إلا أن صعودها لم يكن يومًا مجرد مسارٍ عقائدي، بل تخلّلته ترتيبات دبلوماسية، وتقاطعات عميقة مع المصالح الدولية.

من "البابية" إلى البهائية: كيف تشكل المشروع؟

في منتصف القرن التاسع عشر، ظهر "الباب" في إيران مدّعيًا أنه حامل لوحي جديد يُمهّد لدين إلهي قادم. وقد استُقبلت دعوته بردٍّ دموي من الدولة ورجال الدين، لأنها هددت أسس الشرعية الدينية والسياسية معًا. بعد إعدامه، جاء بهاء الله ليحوّل الدعوة من حركة مهدوية إلى ديانة مستقلة: البهائية.

لكن هذا التحول لم يكن فقط لاهوتيًا، بل سياسيًا بامتياز. إذ سارع بهاء الله إلى نفي العنف، وقاد الدعوة نحو خطاب التسامح الكوني، مما قرّبها من دوائر النفوذ الغربي الباحثة عن بدائل دينية "معتدلة" في الشرق.

النفي... ثم الاحتضان

تمّ نفي بهاء الله من إيران إلى الدولة العثمانية، فانتقل بين بغداد، ثم إسطنبول، ثم أدرنة، إلى أن استقر في عكا (فلسطين)، التي أصبحت لاحقًا المركز الروحي العالمي للبهائيين. هذه الرحلة القسرية لم تكن عقوبةً فقط، بل منحت البهائية فرصة لإعادة إنتاج خطابها في بيئات متعددة، والتقرب من دوائر القرار الأوروبية، في زمنٍ كانت فيه القوى الكبرى تبحث عن أدوات للنفوذ غير العسكري.

خلال القرن العشرين، تطورت العلاقة بين البهائية والأنظمة الغربية. فقد تبنّت البهائية خطابًا أمميًا يتقاطع مع مبادئ "عصبة الأمم" ثم "الأمم المتحدة"، وشاركت فعليًا في مؤتمرات السلام وحقوق الإنسان، حتى أصبحت — في نظر كثير من الدول — نموذجًا لـ"الإسلام المتسامح البديل"، رغم أنها ترفض صراحةً أن تُعدّ من الإسلام.

"وحدة العالم الإنساني": العقيدة أم الرسالة السياسية؟

جوهر العقيدة البهائية يقوم على وحدة الأديان، وإنهاء الصراعات، ونبذ الطائفية والحدود القومية. لكن هذا الطرح ليس بريئًا تمامًا. فالدين الذي يعارض "الوطنية" ويدعو إلى حكومة عالمية، لا يبدو منفصلًا عن الرؤية الأممية التي روّجت لها القوى الغربية في أعقاب الحربين العالميتين، بهدف تفكيك الهويات القومية ونزع فتيل الثورات.

البهائية هنا تتحرك في ثوب روحي، لكنها تخدم — دون صدام — رؤية استراتيجية لإنهاء فكرة المقاومة القومية أو الدينية، عبر استبدالها بخطاب وحدوي يتماهى مع النظام العالمي الجديد.

علاقة غامضة بالقوة الناعمة

في كثير من الدول العربية والإسلامية، حظيت البهائية بدعم غير مباشر، رغم أنها ممنوعة رسميًا. فقد فُتح المجال لها تدريجيًا في الأوساط الأكاديمية، ومراكز الحوار، والمؤسسات الحقوقية. كما أن حملات الدفاع عن البهائيين غالبًا ما تصدر عن جهات غربية ذات طابع استراتيجي، لا حقوقي فحسب.

وبينما يُمنع أتباع بعض الديانات من السفر أو التعبير، فإن البهائيين حظوا بجوازات سفر دبلوماسية (من الأمم المتحدة)، وبشبكة دعم مدهشة في السفارات والمنظمات الدولية، مما يُثير تساؤلات حول حجم "الغطاء السياسي" الذي تحرك في الظل.

خاتمة

ليست البهائية أول ديانة وُظفت سياسيًا، ولن تكون الأخيرة. لكنها تقدم نموذجًا ناعمًا لدينٍ نشأ في بيئة قمع، لكنه اختار طريق البقاء عبر التحالف مع السلطة العالمية، وتقديم خطاب يتماهى مع تطلعات النظام الدولي. إنها ديانة سياسية بلباس سلامي، لا تُرهب أحدًا، لكنها تُعيد تشكيل وعي المجتمعات بشكل عابر للحدود، وعابر للعقائد.

سلسلة: دين الوظيفة السياسية

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡