الحلقة الأولى: الردع الناعم

حين يُقصف شعبٌ أعزل على مرأى العالم، وتُستهدف مستشفيات ومدارس ومخيمات أطفال، ثم تُغلق ملفات التحقيق بـ"عدم كفاية الأدلة"، لا يعود السؤال: من أطلق القذيفة؟ بل: من منح القاتل ترخيصًا أخلاقيًا وقانونيًا للمجزرة؟
في هذا المشهد الكوني المعقّد، لا تُمارس أدوات الردع فقط عبر الجيوش والطائرات، بل عبر تقارير "الخبراء"، وبيانات "مجلس الأمن"، وصمت "المحكمة الجنائية الدولية". إنها آليات الردع الناعم، التي لا تُمطر الأرض بالقنابل، بل تُحصّن القاتل ضد أي إدانة.
ماذا يعني "الردع الناعم"؟
الردع الناعم هو القدرة على ضبط سلوك الدول والشعوب عبر أدوات غير عسكرية: القانون الدولي، العقوبات، التقارير الحقوقية، شرعية "الإجماع الدولي". لكنه حين يُوظف لخدمة الأقوياء فقط، يصبح أداة لضمان إفلاتهم من العقاب، لا لكبحهم.
فتقارير الأمم المتحدة التي تُؤجَّل، والقرارات التي لا تُنفّذ، والهيئات التي "تُدين الطرفين"، ليست إخفاقات عفوية، بل جزء من نظام دولي صُمّم ليمنع المحاسبة حين يكون القاتل حليفًا للغرب.
منظمات حقوقية أم أدوات وظيفية؟
كثير من المنظمات الدولية الكبرى – الحكومية منها وغير الحكومية – تُمارس نوعًا من الهندسة الأخلاقية للصراعات. لا تقول "هذه جريمة"، بل تقول: "نحن نحقق". تُساوي بين القاتل والضحية في بياناتها. تُدين "أعمال العنف من كل الأطراف"، حتى ولو كان أحد الأطراف يعيش تحت حصار خانق منذ 17 عامًا.
هذه المنظمات، بحكم تمويلها، أو ارتباطها المؤسسي، أو اعتمادها على مصادر غربية، تُصبح في كثير من الأحيان امتدادًا ناعمًا للسياسة الغربية، تمنح القصف شرعية ضمنية بمجرد أنها لا تصفه بما هو عليه.
المحكمة الجنائية الدولية: عدالة بوصلة واحدة
رُوّج للمحكمة الجنائية الدولية كأداة لضمان العدالة العالمية. لكنها سرعان ما تحوّلت إلى محكمة الجنوب العالمي فقط. فكل رؤساء الدول الذين حوكموا كانوا من إفريقيا أو البلقان أو مناطق الصراع التي لا حلفاء لها في الغرب. أما قادة الدول الغربية وإسرائيل، فظلّوا بمنأى عن أي ملاحقة، رغم توثيق المجازر بالصوت والصورة.
في العدوان على غزة مثلًا، لم تُفتح تحقيقات جادة، ولم تصدر مذكرات توقيف، رغم الأرقام المهولة للضحايا، واستهداف طواقم الإغاثة والصحافة والمستشفيات. فحين يكون القاتل "معتمدًا دوليًا"، تتوقف العدالة عن العمل.
وظيفة الردع الناعم: ليس منع القصف.. بل منع الإدانة
حين نعيد قراءة سلوك المنظمات الدولية خلال الحروب الكبرى، نكتشف أنها لا تملك أدوات لإيقاف القصف، بل أدوات لإعادة صياغته. إنها تمنع الإدانة الصريحة، وتُجرّد المجازر من تسميتها، وتُغرق القضية في دهاليز التحقيقات "المطولة"، إلى أن ينساها الإعلام، ويُطوى الملف.
الردع الناعم إذًا لا يحمي الشعوب، بل يحمي المجرمين من وصمة الجريمة. إنه سلاح صامت، لكنه بالغ التأثير.
خاتمة:
في عالمٍ تُقصف فيه المدن ويُقتل الأطفال على الهواء مباشرة، ثم تُرفع الجلسات بـ"لا إجماع"، يجب ألّا نُخدَع بالمصطلحات. فالعدالة الدولية اليوم لا تُدار في قاعات لاهاي، بل في دهاليز المصالح، وخرائط النفوذ، وميزانيات المنظمات. وما لم تُكسر هذه البنية الناعمة للردع الكاذب، فستبقى المجازر تحظى بغطاء قانوني، وبصمتٍ دوليّ مشين.