من يدير الصورة؟ الإعلام الغربي بين المذبحة والمونتاج

في زمن المجازر الموثقة لحظةً بلحظة، لم يعد السؤال هو "ماذا يحدث؟"، بل "من يملك حقّ رواية ما يحدث؟". وبينما تقصف إسرائيل قطاع غزة بعنف غير مسبوق، يظهر الإعلام الغربي وكأنه شريك في تشكيل صورة انتقائية للواقع، صورة تُخفف من وقع المذبحة، وتُعيد تأطير الجلاد كضحية، والضحية كمصدر تهديد.

فمن يدير الصورة؟ ومن يُقرر ما يُعرض وما يُخفى؟ وما دور التحرير الإعلامي في إعادة صياغة الحقيقة تحت عناوين "الحياد" و"المهنية"؟

الصورة ليست محايدة: المونتاج أخطر من الرصاصة

في الحروب الحديثة، لم تعد الكاميرا مجرّد أداة توثيق، بل أداة خَلق للسردية. يتم تصوير الضحايا، لكن دون سياق. يُعرض الانفجار، لكن دون أن يُذكر من سبّبه. تُبرز صور المدنيين الإسرائيليين في الملاجئ، بينما تُطمس صور الأطفال الفلسطينيين تحت الركام.

وما لا يُعرض أخطر مما يُعرض. عشرات الغارات على مدارس ومستشفيات لم تحظَ بدقيقة واحدة في نشرات الأخبار الغربية الكبرى، بينما خُصّصت ساعات كاملة لتحليل مشاعر الذعر داخل مستوطنات الاحتلال.

السردية المُعلّبة: حين تُصبح الكلمات أدوات قتل

الإعلام الغربي لا يزوّر الحقائق غالبًا، بل يُعيد ترتيبها. لا يقول "الفلسطينيون مذنبون"، بل يقول: "نزاع معقد"، "دوامة عنف"، "تبادل إطلاق نار"، وكأن الجريمة متبادلة، وكأن الصراع لا جذور له، لا احتلال فيه ولا استعمار.

يُستخدم مصطلح "حماس" كستار لغوي لحجب شعب بأكمله. ويُختزل القصف في "ردّ إسرائيلي على هجوم"، دون أي ذكر لسنوات الحصار، أو مجازر الأيام السابقة، أو الاستيطان الممنهج.

التحرير الصحفي هنا لا يُنقّح الحقيقة، بل يُصفّيها مما يزعج الرواية الرسمية. إنّه مونتاج سياسي بامتياز.

من يتحكم فعليًا في الإعلام الغربي؟

السؤال ليس تقنيًا بل سياسي. المؤسسات الكبرى التي تصيغ الرأي العام الغربي – من BBC إلى CNN إلى نيويورك تايمز – لا تتحرك في فراغ. هناك مراكز نفوذ، ضغط سياسي، تحالفات مع دوائر القرار، وقيود مفروضة من جهات مانحة أو شركات كبرى.

حتى "الصحفي المستقل" يخضع لبيئة تحريرية تحدد له الحدود: ما الذي يمكن قوله، وما الذي يُفضَّل تجاهله، ومن يمكن انتقاده، ومن يُفترض تجنّب تسميته.

بل إن بعض الصحفيين الذين تجرؤوا على كشف الصورة الحقيقية، وجدوا أنفسهم مهددين بالفصل أو الإقصاء أو التشهير.

حين يُعيد الفلسطينيون تدوير العدسة

لكن الصورة ليست حكرًا دائمًا. فقد شكّل النشطاء والمراسلون المستقلون الفلسطينيون ثورة بصرية مضادة. هاتف ذكي في غزة قد يهز سردية كاميرا غربية مُعدة بعناية. والمقطع القصير الذي يُظهر طفلة تستنجد من تحت الأنقاض، قد ينسف 10 ساعات من خطاب "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".

هنا، باتت الصورة المقاومة سلاحًا في وجه الرواية المُصنّعة، لكن بثمنٍ باهظ: معظم هؤلاء الصحفيين استُهدفوا وقُتلوا عمدًا، لأن عدستهم كانت أكثر فتكًا من البيانات.

خاتمة

في الحرب، لا تُدار المعركة فقط بالقنابل، بل بالكلمات والصور. والمذبحة التي لا تُصوّر كأنها لم تقع. لذلك، فإن سؤال "من يدير الصورة؟" لم يعد تفصيلًا إعلاميًا، بل سؤالًا وجوديًا في معركة الوعي. من ينتصر في الحرب الإعلامية، قد يحسم معركة الرواية، حتى ولو خسر الأرض مؤقتًا.

لكن في زمن الذاكرة الرقمية والعدسات المقاومة، لم يعد الكذب الغربي يحظى بالحصانة ذاتها. فالمونتاج لا يصمد طويلًا أمام الحقيقة المتسرّبة من تحت الركام.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡