الهوية الممزقة: تأملات في الانتماء العربي المعاصر

في زمن تتنازع فيه الخطابات، وتتشظى فيه الولاءات، يبدو سؤال الهوية في العالم العربي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. لا يعود الأمر إلى مجرد جدل ثقافي أو بحث نظري، بل إلى واقع ملموس يعيشه الفرد العربي الذي يستيقظ كل يوم محاطًا بانتماءات متضاربة، تدعوه كل منها باسم مختلف، وتطالبه بولاء متفرد. فهل نحن أبناء وطنٍ واحد أم أوطان؟ أبناء دين أم طائفة؟ أبناء أمة أم جغرافيا سياسية؟ هذه التأملات لا تهدف إلى تقديم إجابات جاهزة، بل إلى مساءلة العطب الكامن في بنيتنا الثقافية، ومساءلة التاريخ الذي أوصلنا إلى هذا التمزق الوجودي.


من نحن؟ سؤال لا يهدأ

الهوية ليست بطاقة تعريف، ولا شعارًا يُرفع في مظاهرة. الهوية وعيٌ مركّب، يتشكل في تراكم التاريخ، ويُعاد إنتاجه عبر اللغة، والتعليم، والإعلام. لكن في الحالة العربية، يبدو هذا الوعي مأزومًا، كأنه بُني فوق أرضية زلقة تتغير باستمرار. المواطن العربي اليوم يجد نفسه ممزقًا بين دوائر انتماء متباعدة: العائلة، القبيلة، الطائفة، الدولة، الأمة، الدين، والإنسانية. هذه الدوائر لا تتكامل بل تتصادم، ولا تُعطي معنى بل تُربك المعنى.


القُطرية كقيد وحداثة مشوهة

لم تكن الدولة القُطرية العربية مشروعًا طبيعيًا نابعًا من سياق حضاري متدرج، بل كانت غالبًا نتاج خرائط استعمارية هندست الجغرافيا والسياسة وفق مصالح خارجية. في ظل هذه الدولة الحديثة، تم اجتثاث الروابط التقليدية، دون أن تُبنى روابط جديدة حقيقية. فكانت النتيجة: مواطن يعيش داخل حدود رسمها الآخر، يُلقَّن انتماءً سياسيًا سطحيًا، بينما يُحرم من رواية ثقافية تجمعه بمن حوله. ما زالت المدرسة تُعلّمه "الوطنية"، لكن الإعلام يحقنه بالولاءات الطائفية، والخطاب الرسمي يرفع شعار "الوحدة" بينما يكرّس واقع التجزئة.


الإعلام والتعليم: حراس الهوية الزائفة

يُفترض أن يكون الإعلام أداة وعي، والتعليم وسيلة بناء للذات الجمعية، لكن ما يحدث غالبًا هو العكس. الإعلام العربي، في كثير من تجلياته، لا يعبّر عن المواطن بل يصوغ وعيه وفق سرديات السلطة. فهو يختار له ما يسمعه، ويمنحه هوية جاهزة مفرغة من التاريخ الحي. أما التعليم، فقد تحوّل في معظم الدول إلى منظومة تلقين تخدم النظام السياسي لا الحقيقة. يُربّى الطفل على تمجيد حدود سايكس-بيكو، دون أن يفهم لماذا لا يستطيع زيارة بلدة تبعد عنه عشرين كيلومترًا لأنها "في دولة أخرى". يُلقّن أن "الوحدة العربية" حلم جميل، ثم يُشاهد كيف يُعامل العربي كأجنبي في بلاد العرب.


الهويات الفرعية كملاذ مؤقت

حين تُخفق الدولة في تقديم هوية جامعة، يبحث الناس عن مأوى في هويات أصغر. يعودون إلى الطائفة، العشيرة، أو الجماعة العقائدية، كأنهم يفرّون من مجهول كبير إلى مألوف ضيّق. لكن هذه الهويات، رغم دفئها العاطفي، لا تستطيع بناء مشروع مشترك. بل كثيرًا ما تتحوّل إلى أدوات صراع وتفتيت. وهنا تبرز مأساة العربي المعاصر: إما أن يتماهى مع دولة لا تمثله، أو أن يلوذ بجماعة لا تتسع له، أو أن يُفرّغ ذاته في هوية كونية سطحية لا تمت لتاريخه بصلة.


شباب ما بعد الثورات: جيل بلا مرجعية

الجيل العربي الجديد نشأ في مفترق الطرق. رأى سقوط الرموز، واهتراء الشعارات، وتجربة الحرية المجهضة. جيل يكتب بلغات متعددة، ويعيش على منصات افتراضية، ويستهلك ثقافات عالمية، لكنه في الوقت ذاته يبحث عن جذوره في تراث مبعثر. إنه جيل الهوية المؤجلة، لا يجد ذاته في الإعلام الرسمي، ولا في الخطاب الديني التقليدي، ولا في النموذج الغربي المعلّب. يعيش في وطن يرفض أن يحتضنه، وفي عالم لا يعترف به إلا بوصفه "آخرًا".


هل من أفق للترميم؟

رغم هذا التمزق، لا تزال هناك إمكانية لبناء وعي جديد. ليس بالعودة إلى شعارات الوحدة الفارغة، ولا بالهروب إلى هويات متطرفة، بل بإعادة قراءة الذات من الداخل، وتفكيك البُنى الثقافية التي جعلتنا غرباء في أوطاننا. الانتماء لا يُفرض، بل يُبنى على أساس الحرية والمعنى. ولا يمكن للهوية أن تُولد من الخوف أو القهر، بل من المعرفة والحوار والسردية الصادقة.

الهوية العربية ليست مفقودة، بل مخنوقة. والمهمة الكبرى ليست في البحث عنها، بل في إزالة الركام الذي يُعيق تنفّسها. وهذه مهمة فكرية وسياسية طويلة، لكنها ضرورية للخروج من متاهة "من نحن؟" إلى أفق "ماذا نريد أن نكون؟".

أحدث أقدم
🏠