نشأة إعلام الدول العربية بعد سايكس بيكو: من النشوء الوطني إلى التوظيف السلطوي

لم تكن اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 مجرد تقاسم جغرافي بين بريطانيا وفرنسا، بل كانت عملية تفكيك ممنهجة لوحدة شعورية كانت لا تزال حاضرة في الوعي الجمعي لشعوب المشرق العربي. ومع نشوء الدول العربية الحديثة فوق خرائط التقسيم الاستعماري، نشأ أيضًا ما يمكن تسميته بـ"الإعلام الوطني المصطنع" الذي جاء ليعكس شرعية الكيان الجديد، لا شرعية الذاكرة الجماعية.
لكن ما طبيعة هذا الإعلام الذي وُلد في رحم التجزئة؟ كيف تكوَّن؟ ومن كان يحرك خيوطه في الخفاء؟


إعلام الولادة من رحم الدولة

في أعقاب سايكس بيكو، برزت كيانات سياسية لم تكن موجودة من قبل، وقد سعت كل سلطة ناشئة إلى تثبيت شرعيتها عبر أدوات من أبرزها الإعلام. ولم يكن هذا الإعلام تلقائيًا أو مجتمعيًا، بل كان أداة مباشرة في يد السلطة، سواء كانت استعمارية مباشرة أو سلطة محلية تحت وصاية استعمارية غير معلنة.

أنشأت السلطات الحاكمة إذاعات وصحفًا حكومية تحمل اسم الدولة وتتكلم بلسانها. فظهرت الإذاعة السورية (1946)، وإذاعة القاهرة (1934)، وإذاعة بغداد (1936)، وكلها كانت تُموَّل وتُدار من الدولة. لم تكن هذه المنابر مستقلة، بل كانت امتدادًا للمخاطب الرسمي الذي يبرر السياسات ويصنع هوية وطنية من قوالب فوقية، غالبًا ما تكون معزولة عن الوجدان الشعبي.


من "الرسالة الوطنية" إلى "الصوت الواحد"

في العقود الأولى بعد الاستقلال الشكلي، ظلت النخب السياسية – غالبًا عسكرية – تعتبر الإعلام أداة تأطير للشعوب لا أداة تعبير عنها. وهكذا تحوّل الإعلام العربي إلى صوت واحد يعكس ما تقرره السلطة. ولعل شعار "الإعلام الموحد" الذي راج في الستينات يعكس هذه النزعة التوجيهية.

كان المطلوب من الإعلام أن "يربّي المواطن" وفقًا لأيديولوجيا النظام، لا أن ينقل له الحقيقة. وفي سبيل ذلك، غابت التعددية الإعلامية، وجرى تأميم الصحف، ومُنعت الإذاعات المستقلة، بل سُنّت قوانين تجرّم الآراء المعارضة تحت مسمى "الإخلال بالوحدة الوطنية".


الإعلام كأداة إعادة صياغة للهوية

من أبرز آثار سايكس بيكو على الإعلام العربي أنه بات أداة لإنتاج هويات جديدة تقطع مع الذاكرة الجمعية. فبدلًا من الحديث عن وحدة الأمة، أصبح الإعلام يتحدث عن "الخصوصية الوطنية" و"الهوية المحلية" التي لا تتجاوز حدود الدولة المصطنعة. كل كيان جديد أراد أن يصنع سرديته الخاصة عن "تاريخه"، و"رسالته"، و"استقلاله"، وكأن الشعوب لم تكن يومًا جزءًا من نسيج عربي أوسع.

تمت إعادة كتابة التاريخ في المناهج وفي الإعلام على السواء، وفق خطوط سايكس بيكو لا وفق الحقائق الثقافية. وأصبح الإعلام العربي يتحدث عن "التدخلات الخارجية" وهو يتجاهل أن وجود الدولة نفسها هو نتاج تدخل خارجي بالأساس.


الدور الاستعماري المستتر

ما يجب الانتباه إليه أن القوى الاستعمارية لم تغادر فعليًا بعد الاستقلال، بل استمرت عبر وكلاء محليين وتحالفات خفية. وكان الإعلام واحدًا من أدوات السيطرة الناعمة. كثير من الصحف التي أنشأتها الأنظمة، خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال، كانت تُشرف عليها بعثات أجنبية، أو تُموَّل بمساعدات دولية مشروطة، أو تُدار من نخب تم تأهيلها فكريًا في جامعات استعمارية.

هكذا أصبح الإعلام أداة لإعادة إنتاج التبعية باسم الاستقلال. إعلام يتحدث باسم "السيادة" بينما يبرر التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية للغرب.


الخلاصة: إعلام ما بعد سايكس بيكو ليس وطنيًا بل "وطني الصياغة"

يمكن القول إن الإعلام العربي ما بعد سايكس بيكو لم يكن نابعًا من حاجة مجتمعية للتعبير، بل كان استجابة لحاجة السلطة في تبرير وجودها، وتمرير خطابها، وبناء هوية وطنية تتماشى مع خريطة المصالح الغربية. ولذلك لم يكن الإعلام العربي حرًا، ولا تعدديًا، ولا صادقًا، بل كان صوتًا مصقولًا بعناية لخدمة أجندات من فوق.

وإلى اليوم، لا يزال كثير من الإعلام العربي يعاني من إرث تلك النشأة، حيث ما زالت التعددية الإعلامية شكلية، والاستقلالية محدودة، والخطاب موجّه وفق مقتضيات البقاء في السلطة لا وفق مقتضيات خدمة الحقيقة.

أحدث أقدم
🏠