أعلام الدول العربية: بين رمز السيادة وبصمات التاريخ الخفي

تحمل الأعلام في ظاهرها رمزًا للسيادة الوطنية ووحدة الشعب، ولكنها في حقيقتها وثيقة بصرية تختزن سردية سياسية وثقافية عميقة. لا تُرسم الأعلام عبثًا، ولا تُختار ألوانها وأشكالها من فراغ، بل غالبًا ما تكون نتاج توازنات تاريخية، وولاءات أيديولوجية، وأحيانًا تعبيرًا عن تبعية غير معلنة. 

وفي العالم العربي، حيث توالت الانقلابات والاستعمار والتبعية، باتت دراسة الأعلام بابًا لفهم تحولات الهوية واختراق الذاكرة الجمعية.


وحدة الشكل.. واختلاف الولاء

من يتأمل أعلام الدول العربية يلحظ تشابهًا بصريًا صارخًا: الأحمر، الأبيض، الأسود، والأخضر. هذه الألوان الأربعة تُعرف بـ"الألوان العربية"، وتعود جذورها إلى رايات الخلافات الإسلامية الكبرى (العباسية، الأموية، الفاطمية)، ثم أعيد إحياؤها في أوائل القرن العشرين على يد الشريف حسين في الثورة العربية الكبرى.

غير أن هذا التشابه لا يعكس بالضرورة وحدة المشروع، بل ربما العكس تمامًا. فبينما رفعت مصر وسوريا والعراق واليمن أعلامًا متشابهة كجزء من مشروع القومية العربية بقيادة عبد الناصر، كانت دول الخليج تحافظ على أعلام خضراء أو حمراء بتكوينات مغايرة، تعبيرًا عن رفضها لتلك الموجة الثورية. وهكذا أصبح تشابه الأعلام أحيانًا مجرد قناع يخفي تضاد الولاءات.


من رسم الأعلام.. ومن فرضها على الشعوب؟

رغم أن الأعلام تُرفع اليوم كرموز وطنية مقدسة، فإن من صمّمها في معظم الدول العربية لم يكن الشعب، ولا لجان وطنية تمثيلية، بل غالبًا ما كان المستعمر الأوروبي، أو قادة الانقلابات، أو أيديولوجيون يسعون لفرض هوية جديدة من فوق لا من تحت. ففي حالات عديدة، تم استلام تصميم العلم على عَجَل، في مكاتب الإدارات الاستعمارية أو بإملاء من المستشارين الغربيين، ثم رُفع رسميًا دون أن يُطرح على الرأي العام أو يُستفتى حوله الشعب.

علم الثورة العربية الكبرى – الذي أصبح أساسًا لعدة أعلام عربية لاحقة – صممه في الحقيقة الضابط البريطاني مارك سايكس سنة 1916، ضمن اتفاقيات تقاسم النفوذ مع فرنسا. وقد وُزعت ألوانه – الأسود والأبيض والأخضر والأحمر – على أعلام الأردن، فلسطين، العراق، سوريا، واليمن، وكأنها بصمة استعمارية أُعطيت لكل من خرج من رحم سايكس-بيكو.

في لبنان، أقرّ البرلمان تحت الانتداب الفرنسي علمًا يحمل شجرة الأرز (رمز ديني مسيحي) فوق أرضية بيضاء وحمراء مستوحاة من العلم الفرنسي، في تجاهل صارخ لهوية المسلمين الذين كانوا يُشكلون نصف البلاد. أما في ليبيا، فقد صمّم البريطانيون علم المملكة بعد الاستقلال سنة 1951، بتقسيم مناطقي (برقة، طرابلس، فزان) لا يعكس بالضرورة وحدة وطنية، بل يكرّس توازنات مدروسة تخدم ترتيبات ما بعد الاستعمار.

وفي الجمهوريات، كانت الأعلام في الغالب مرآة للانقلابات، لا للدساتير. علم العراق تغيّر أربع مرات خلال نصف قرن، وكل نسخة كانت تجسيدًا لهوية النظام الحاكم، لا لهوية المجتمع. النسخة البعثية، النسخة الناصرية، نسخة صدام حسين بخطه، ثم العلم المعدّل بعد الاحتلال الأميركي. وفي سوريا، ظلّ العلم وسيلة لترسيخ سردية النظام أو المعارضة، لا راية لتمثيل الشعب ككل.

إن أغلب أعلام الدول العربية وُضعت في لحظات انتهازية، إما من قِبل قوى خارجية هندست ملامح الدولة، أو من طرف أنظمة داخلية تسعى لفرض هوية أيديولوجية. ولم يُمنح الشعب يومًا حق النظر في هذا الرمز العميق، الذي يُفترض أن يجسّد ذاكرته ومصيره.


الرايات التي صنعها الاستعمار

في عدة دول عربية، لم يكن الاستقلال نهاية للتدخل الأجنبي، بل بداية لترسيخ رموزه بأدوات ناعمة، ومنها الأعلام. فالعلم الليبي القديم (أيام المملكة) صممه البريطانيون، والعلم الأردني ما زال يحمل بصمة "علم الثورة العربية" الذي دعمته بريطانيا لتفكيك الدولة العثمانية. أما العلم اللبناني، فقد أُقرّ في عهد الانتداب الفرنسي، وراعت مكوناته الديموغرافيا الطائفية أكثر مما راعت وحدة الأرض.


الانقلابات والأعلام: كل نظام بلونه

في بلدان مثل العراق، اليمن، ليبيا، السودان، غيّرت الأعلام بتغيّر الأنظمة. فبعد كل انقلاب، يُعاد رسم العلم وكأنه إعلان ولادة هوية جديدة – أو بالأحرى، مسح لذاكرة سابقة. علم العراق مثلاً تغيّر أربع مرات منذ 1958، وكل مرة كان يرمز لولاء سياسي مختلف، من الوحدة مع مصر إلى البعث، ثم إلى مرحلة ما بعد صدام حسين.


علم بلا دولة.. دولة بلا علم

بعض الأعلام العربية اليوم تحمل رموزًا تفوق حجم الدولة نفسها. العلم الفلسطيني، مثلًا، أصبح رمزًا أمميًا للمقاومة رغم غياب الدولة الفعلية. والعلم السوري بات ساحة صراع بين نسختين: علم النظام (النجمتان الخضراوان) وعلم المعارضة (الثلاث نجمات الحمر). أما ليبيا، فقد عادت بعد القذافي إلى علم المملكة وكأنها تحاول استعادة براءة مفقودة.


ما لا يُقال: السياسة خلف الألوان

حتى الألوان لها رسائل غير بريئة. الأبيض قد يعني السلام، لكنه أيضًا محايد وخاضع. الأحمر ثوري أو دموي، حسب الزاوية. الأخضر إسلامي، لكنه قد يكون مؤشرًا على حكم محافظ أو ديني. أما الأسود، فيحمل دلالات القوة، أو الغياب، أو حتى الحداد. هكذا تُنسج الأعلام بلغة رمزية لا يملك العامة مفاتيحها، لكنها تخاطب النخب والأنظمة وتُستخدم لإعادة إنتاج خطاب السيادة والشرعية.


خلاصة

علم الدولة ليس مجرد قطعة قماش تُرفع فوق المباني. إنه خريطة مشحونة بالصراعات، والرموز، والرسائل المبطنة. وفي العالم العربي، قلّما كان العلم انعكاسًا حقيقيًا لإرادة شعب، بل غالبًا ما كان نتيجة مساومات سياسية أو استجابة لظروف خارجية. من هنا، فإن تأمل الأعلام العربية هو تأمل في التاريخ، والهوية، والسيادة المفقودة.

أحدث أقدم
🏠