
رغم كل القواسم المشتركة التي تجمع العرب من المحيط إلى الخليج—لغة واحدة، دين مشترك، تاريخ مترابط، ثقافة موحدة—لا يزال واقعهم ممزقًا بحدود مصطنعة، وشعوبهم محاصرة داخل كيانات قطرية عاجزة، واقتصاداتهم مفككة، وحريات تنقلهم مقيدة بقيود أمنية واهية. في المقابل، استطاعت أوروبا، بعد قرون من الحروب المدمّرة، أن تتجاوز ماضيها، وتبني كيانًا موحدًا يتبادل فيه الأفراد السلع والعمل والتنقل دون حواجز.
فما الذي يمنع العرب من السير في الطريق ذاته؟ ولماذا تبدو فكرة الوحدة العربية مستحيلة التنفيذ رغم أنها حلم يتكرّر في خطاب كل زعيم عربي؟
1. حدود سايكس–بيكو: تفتيت بالجغرافيا والعقل
الحدود التي تفصل بين الدول العربية ليست قدرًا جغرافيًا، بل مؤامرة استعمارية تمّ تثبيتها بالحبر البريطاني والفرنسي قبل قرن. هذه الحدود لم تُرسم لحماية الشعوب، بل لتقسيمها إلى كيانات هشة خاضعة، وظلت الأنظمة المتعاقبة تحرس هذه الخطوط كأنها مقدسات، بل وعمّقتها في النفوس حتى بات العربي ينظر إلى شقيقه كأجنبي أو تهديد. لقد نجح الاستعمار في زرع الخوف في العقل العربي قبل أن يرسمه على الخرائط.
2. أنظمة تخشى شعوبها أكثر من أعدائها
الأنظمة العربية ليست دولًا بالمعنى المؤسسي، بل سلطات تحتكر القرار والموارد والقوة. وأي مشروع وحدوي حقيقي يهدد هذه البُنى المتكلسة. فالانفتاح يعني تبادل الخبرات، واحتكاك الشعوب، والمقارنة، وربما العدوى الثورية. ولذلك، فإن خوف الأنظمة من الوحدة ليس من الخارج، بل من الداخل، من أن تنكسر العزلة، وتنكشف العروش.
3. جامعة الدول العربية: مؤسسة الكلام دون فعل
لم تكن "جامعة الدول العربية" يومًا إلا مظلة خطابية لتصريف الشعارات، دون أي قدرة على صنع قرار ملزم أو تنفيذ سياسة موحدة. لا جيش مشترك، لا عملة موحدة، لا محكمة إقليمية فاعلة، ولا حتى آلية لحل النزاعات بين الدول الأعضاء. بينما بنى الاتحاد الأوروبي مؤسسات ذات سلطة حقيقية، ظلت الجامعة العربية مجرد صدًى باهتًا لصراخ الأنظمة.
4. اقتصاد ريعي بلا إنتاج ولا تكامل
بينما بُني الاتحاد الأوروبي على أسس إنتاجية تكاملية (صناعات مشتركة، تبادل طاقي، سوق موحد)، فإن الاقتصاد العربي في معظمه ريعي طفيلي، يعتمد على النفط أو التحويلات، وليس على التصنيع أو التجارة البينية. كيف تتكامل اقتصادات لا تنتج، بل تستهلك؟ كيف تتوحد شعوب لا ترتبط بمصالح إنتاجية، بل بمساعدات سياسية؟ لقد نجحت أوروبا لأن مصالحها اقتضت الوحدة، أما العرب فبُنيت أنظمتهم على الانعزال والاستجداء.
5. تفتيت الهوية وتغريب الوعي
بدل أن يُبنى وعي عربي جامع، تم ترويج القُطرية كهوية عليا، وتم تضخيم الخلافات الهامشية، حتى بات اللبناني لا يشعر بأي صلة بالموريتاني، والمغربي لا يجد أي رابط مع اليمني. وقد لعب الإعلام الرسمي دورًا محوريًا في هذا التغييب، حين استبدل فكرة "الوطن العربي" بخطاب "السيادة"، وفكرة "الأمة" بخطاب "الحفاظ على الأمن القومي" من... العربي الآخر!
6. التدخل الخارجي: وحدة العرب خطر على الكبار
كل محاولة وحدوية عربية جوبهت بتآمر خارجي مباشر أو غير مباشر. من عبد الناصر إلى الوحدة السورية–المصرية، ومن مشروع المغرب العربي إلى حلم الهلال الخصيب... كانت النتيجة دائمًا تفجيرًا داخليًا أو حربًا أو حصارًا. فالوحدة العربية، إن تحققت، ستخلق كيانًا لا يُستعبد ولا يُبتز، وهو ما تعتبره القوى الكبرى تهديدًا استراتيجيًا يجب دفنه في المهد.
7. خدعة "حفظ الموارد لأهل البلد"
من أكثر الحجج تكرارًا لتبرير غلق الحدود بين العرب: "نريد الحفاظ على الموارد لأبناء الوطن"، وكأن العربي الآخر قادم لنهب الثروات لا للمساهمة فيها. لكن الحقيقة الصارخة أن الموارد تُهدر بالفساد، لا بالتعاون. والمفارقة أن الدول نفسها التي تمنع العربي من الدخول، تستقبل المستثمر الأجنبي، وتمنحه إعفاءات وامتيازات لا يحلم بها ابن جلدتهم. فأين المنطق؟ وأين الوطنية؟ أم أن الأمر يتعلق بالخضوع للغرب والخوف من العربي؟
8. خدعة "الحفاظ على الأمن"
الحجة الأمنية تُستخدم كعصا غليظة لتبرير الانغلاق والعزلة. لكن الواقع يفضح هذا الزيف: الجرائم الكبرى، من تهريب السلاح إلى الإرهاب، تتم رغم الحدود، بل أحيانًا بتواطؤ من داخل الحدود. أما المواطن العربي البسيط، فهو المتهم الدائم، رغم أنه ضحية التهميش والتجويع والتشريد. الأمن لا يُبنى بالعزلة، بل بالتكامل والمعلومة والتنسيق، وكل ذلك ممنوع في مناخ عربي مشبع بالشكوك والخوف.
خاتمة: لم يفشل العرب لأنهم عاجزون، بل لأن القرار مسروق
العرب لا ينقصهم القرب، ولا المشتركات، ولا الطموح، بل الإرادة السياسية، والجرأة على كسر الجدران الوهمية التي فُرضت عليهم. لقد بُني الاتحاد الأوروبي بعد مجازر وملايين القتلى، فهل ما بين العرب من خلافات أكبر من حروب أوروبا؟ الحقيقة أن من يحكمون العرب لا يريدون وحدة، لأنهم يعرفون أنها ستفضحهم، وتُفقدهم امتيازاتهم.
إن مستقبل الأمة لا يُبنى بالشعارات، بل بكسر القيود، وفضح الموانع المصطنعة، وتأسيس وعي شعبي يؤمن أن ما فرّقنا لم يكن يومًا قدرًا، بل مشروعًا.