الاقتصاد الريعي: حين تتحول الثروة إلى لعنة

في كثير من دول العالم، لا يرتبط الغنى بالعمل، ولا تتولّد الثروة من جهد بشري، بل تأتي على هيئة ريع: مورد طبيعي، امتياز سياسي، أو تحويل خارجي. يُعرف هذا النمط بـ"الاقتصاد الريعي"، وهو أكثر من مجرد نمط اقتصادي؛ إنه نمط حكم، وطريقة تفكير، ومجتمع بأكمله يُعاد تشكيله وفق منطق الريع لا منطق الإنتاج.
تبدو الدول الريعية من الخارج كأنها غنية، لكنها في العمق هشّة، تعتمد على مصدر واحد للدخل، غالبًا خارج عن إرادتها. وهنا تكمن المفارقة: ما يبدو نعمة في ظاهر الأمر، قد يكون في جوهره لعنة هيكلية تمنع التنمية، وتُعيد إنتاج التبعية، وتُحوّل الدولة إلى موزّع للثروة لا منتج لها.


الدولة الموزِّعة لا الدولة المنتِجة

في الاقتصاد الريعي، تحتكر الدولة المصدر الأساسي للثروة (كأن يكون النفط أو الغاز)، ثم توزعه على المواطنين عبر الرواتب، الإعانات، والمشاريع. لا حاجة للضرائب، ولا حوافز للاستثمار في الإنتاج، ولا معنى حقيقي للعمل الخلاق. يتحوّل المواطن تدريجيًا إلى مُتلقي للريع، وتتحوّل الدولة إلى راعية لا شريكة، في علاقة تفتقر للمساءلة المتبادلة.

هذا الاحتكار يسمح بإنتاج طبقة بيروقراطية ضخمة، ونظام زبائني قائم على الولاء السياسي لا الكفاءة. ويصبح الوصول إلى الريع مرهونًا بالانتماء، لا بالاستحقاق.

حين تُقتل روح الابتكار

في الدول الريعية، يُقتل الابتكار في مهده. لماذا يُنتج المرء أو يخاطر في بيئة اقتصادية لا تكافئ الجهد، بل تكافئ القرب من السلطة؟ لا غرابة أن تتقلص القطاعات الإنتاجية، وتُهمّش الزراعة والصناعة، ويُعتمد على الاستيراد حتى في أبسط الحاجات. فالدولة تشتري، والمواطن يستهلك، والريع يدور في حلقة مغلقة لا تُنتج شيئًا ذا قيمة طويلة الأمد.


ثقافة الريع: اقتصاديات ما قبل الدولة الحديثة

الاقتصاد الريعي لا يعيد فقط تشكيل البنية الاقتصادية، بل يُنتج ثقافة ريعية. ثقافة تُمجّد الامتياز، وتُزكّي الطاعة، وتحتقر العمل اليدوي أو الحرفي أو الصناعي. ثقافة ترى في الدولة مصدرًا للعيش، لا مجالًا للتنمية. وفي هذا المناخ، يضعف الحس بالمواطنة الفاعلة، وتنكمش روح المبادرة، وتتحول الدولة من "نحن" إلى "هي".


أدوات السيطرة: كيف يخدم الريع السلطة؟

اقتصاديًا، الريع يُمكّن الدولة من السيطرة دون الحاجة للضرائب. وسياسيًا، يُستخدم لتفكيك المجتمع المدني، وتمييع المعارضة، وتعزيز الولاءات الشخصية. وهكذا، تتحول الثروة إلى أداة حكم، وتُستخدم أموال الأمة لشراء الصمت لا لتحفيز النهوض.

وهنا يُصبح الاقتصاد الريعي امتدادًا طبيعيًا لأنظمة استبدادية لا تقوم على التمثيل أو الإنتاج، بل على التحكّم في تدفق المال، وإدارة الولاء السياسي بمفاتيح الريع.


حين يتبخر الريع: الهشاشة العميقة

تبدو الدول الريعية مستقرة طالما استمر تدفق الريع. ولكن، ما إن تنخفض أسعار النفط، أو تتوقف التحويلات الخارجية، حتى يظهر الواقع: اقتصاد هش، مجتمع غير مهيأ، دولة عاجزة. فبدون تنويع اقتصادي حقيقي، وبدون قاعدة إنتاجية مستقلة، لا يمكن الصمود طويلًا في وجه الأزمات.


التجربة الخليجية مثالًا

دول الخليج تمثل المثال الأوضح على الاقتصاد الريعي الحديث. ثروات طائلة من النفط، خدمات مجانية، مستويات رفاه عالية نسبيًا، لكنها قائمة على مصدر واحد غير متجدد، وعلى قوى عاملة أجنبية ضخمة، وعلى فجوة متزايدة بين الإنتاج والاستهلاك. رغم محاولات "رؤية 2030" وغيرها من خطط التحول، لا يزال الطابع الريعي حاضرًا بقوة، ويصعب اقتلاعه دون تحوّل عميق في العقيدة الاقتصادية والثقافة العامة.


ما البديل؟ وما الحل؟

التحول من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي لا يتم بإلغاء الريع، بل بكسر مركزيته، وتنمية قطاعات منتجة، وتحفيز الاستثمار في البشر، وتمكين المجتمع من المساءلة والمشاركة. الاقتصاد الإنتاجي لا يُبنى على ثروة جاهزة، بل على إرادة جماعية للعمل والابتكار.

خلاصة

الاقتصاد الريعي ليس مجرد وصف لحالة اقتصادية، بل هو مرآة لنمط من الحكم، وآلية لإدارة المجتمع، وبنية ذهنية ترى الثروة كحق طبيعي لا كمحصلة عمل. ولكي تتحرر الأمم من لعنة الريع، عليها أن تستعيد علاقتها الحقيقية بالعمل، بالإنتاج، وبالكرامة التي لا يهبها أحد، بل تُنتزع بالجهد والمعرفة.

أحدث أقدم
🏠