
هوية الجماعة أم هوية الذات؟
الانتماء الحقيقي هو فعلٌ نابع من وعي الفرد بذاته، من اختياراته، ومن تفاعله الحر مع الواقع. أما الانتماء الزائف فهو نسخة جماعية مفروضة تُلقَّن له منذ الطفولة: أنت تنتمي لهذا لأنك وُلدت هنا، ولأن أباك وُلد هنا. لا حاجة لتسأل أو تشكّ. لا حاجة لتختار.
حين تتحوّل الهوية إلى وصاية، يصبح كل ما يفعله الفرد انعكاسًا لمرآة الجماعة. يدافع عن أفكارها وكأنها عقيدته، يكره من تكره، ويُحب من تحب، ويشعر بالتهديد إذا تحدّث أحدٌ عن إعادة النظر في أي من مسلّماتها.
هكذا، يصبح الفرد مفعولًا به لا فاعلًا، محمولًا بهويته لا حاملًا لها. يفقد الفرد ملامحه، ويذوب في قطيع يتبنى خطابًا واحدًا وسلوكًا نمطيًا، وينظر لكل اختلاف على أنه خيانة.
كيف يُصنع الانتماء الزائف؟
هناك ثلاث آليات رئيسية تُشكّل هذا الانتماء القسري:
-
البرمجة النفسية المبكرة: حيث يُربّى الطفل على أن الولاء لجماعته مُقدّس، وأن الشكّ في أي قيمة من قيمها هو خيانة أو انحراف. لا يُدرَّب على التفكير النقدي، بل على الطاعة والتكرار.
-
الاحتواء العاطفي المشروط: يشعر الفرد بالقبول الاجتماعي ما دام متماثلًا مع الجماعة. كل محاولة للتفكير المختلف تُقابل بالنبذ، أو الاتهام، أو السخرية. فيختار الفرد السلامة العاطفية على الحرية الفكرية.
-
الإعلام والدين والسياسة: أدوات كبرى تُعيد تشكيل وعي الفرد ليتماشى مع السردية الجماعية، مستخدمة خطاب الهوية، والعدو، والتخويف من الآخر المختلف.
أمثلة واقعية على الانتماء القسري
- شاب وُلِد في بيئة طائفية، يكرّه طائفةً أخرى لم يُقابل أحدًا من أتباعها يومًا، فقط لأن الجماعة أخبرته أن هؤلاء "أعداء الله".
- فتاة تنتمي لحزب سياسي لا تفهم برامجه، لكن ولاء والدها للحزب يجعلها تراه مقدسًا رغم تناقضاته.
- شاب يتبنى خطاب قبيلته في السياسة والاقتصاد والدين كأنها حقائق مطلقة، لا لأنها أقنعته، بل لأنها شكّلته.
كل هؤلاء لا يعيشون ذواتهم. بل يعيشون نسخةً مصنوعة بعناية من خارجهم.
التحرر من الانتماء الزائف: كيف يستعيد الفرد ذاته؟
ليس المطلوب الانسلاخ عن كل انتماء، بل نقده. المطلوب أن يُعيد الفرد فحص علاقته بالجماعة: هل أنا أنتمي لأنني اخترت؟ أم لأنني خُيّرت بين الطاعة والنبذ؟
الخطوة الأولى في استعادة الذات هي الشكّ. لا بمعناه العدمي، بل كأداة للفحص: لماذا أؤمن بما أؤمن؟ من علّمني هذه الكراهية؟ هل من حقي أن أكون مختلفًا؟ وهل يمكن أن أكون أنا… خارج القطيع؟
إن التحرر من الانتماء الزائف لا يعني الخروج من الجماعة، بل الخروج من التبعية العمياء لها. أن تنتمي، لكن بوعي. أن تَنتقد دون خوف. أن تقول "لا" حين تقول الجماعة "نعم"، إن لم تقتنع.
خاتمة: من لا يملك ذاته، لا يملك شيئًا
في زمن الجماعات المتضخّمة، قد يبدو الانتماء خلاصًا. لكنه إن لم يكن نابعًا من الذات، فهو عبودية مقنّعة.
والفرد الذي يعيش بهوية لا تخصه، سيفكّر ويصوّت ويعيش ويموت كما أُريد له، لا كما اختار هو.
وهنا، يكمن جوهر الأزمة الاجتماعية الكبرى: الإنسان الذي نراه حولنا… ليس هو. بل مجرد ظلٍّ لما أرادت الجماعة أن يكون عليه.