
ما هو "الوعي الجمعي"؟ ولماذا يُستهدف؟
الوعي الجمعي هو منظومة القيم والمفاهيم والمواقف التي يتقاسمها أفراد المجتمع، ويتصرفون بناءً عليها بصورة لاواعية. هو ما يجعل أغلب الناس يتصرفون بطريقة متقاربة أمام مواقف معينة، ويصدرون أحكامًا متشابهة، ويتبنون نفس ردود الفعل.
وحين يُراد التأثير على مجتمعٍ ما دون إثارة مقاومته، فإن الطريق الأقصر هو اختراق هذا الوعي الجمعي: زرع مفاهيم جديدة على أنها "طبيعية"، وتفكيك المفاهيم الأصيلة تدريجيًا، عبر التعليم، والإعلام، والفن، ومنصات التواصل، وحتى الخطاب الديني.
آليات اختراق الوعي الجمعي
-
التحكم في المفاهيم المفتاحية
تُعاد صياغة المفاهيم الكبرى في حياة الناس (الحرية، الوطن، الكرامة، الدين، التقدم...) بطريقة تجعلها تخدم المنظومة المسيطرة. فتصبح الحرية مساوية للانفلات، والكرامة مساوية للاستهلاك، والدين مساويًا للخضوع، والوطنية تعني التصفيق للسلطة لا الدفاع عن المبدأ. -
إنتاج سردية موحّدة للأحداث
كل حدث يُقدَّم من زاوية واحدة، تُملي على الناس ما يجب أن يشعروا به تجاهه. يتم تشييد قصة إعلامية تُكرَّر في كل وسيلة، حتى تختفي زوايا النظر الأخرى، ويغدو التشكيك فيها ضربًا من "العمالة" أو "الجنون". -
تصنيع أعداء وهميين
يُوجَّه وعي الناس نحو "خطر خارجي دائم" أو "عدو داخلي" لتبرير كل القرارات الفوقية، وتوجيه مشاعر الخوف والكره بعيدًا عن أسباب الأزمة الحقيقية. وهكذا يُحشد الناس لا للدفاع عن حقوقهم، بل للدفاع عن سردية من خدعتهم. -
الإغراق في التسلية والانفعالات
تُشبع الجماهير بموجات من الترفيه السطحي، والانفعالات اللحظية، والجدالات الفارغة، كي تُستنزف طاقتهم الفكرية، وتتحوّل المجتمعات إلى كتل عاطفية سريعة الانفعال، بطيئة الفهم، عاجزة عن التنظيم.
أمثلة على الوعي الجمعي المخترق
- مجتمعات تنادي بالحرية وتصفّق في الوقت ذاته لاعتقال كل صوت مخالف.
- شعوب تُفجَّر فيها الطائفية من خلال مسلسل درامي أو تصريح مدروس، فتتصادم حول رموز ثانوية بينما تُسرق أوطانها من فوقها.
- حملات واسعة تطالب بـ"الدفاع عن القيم"، بينما القيم نفسها يُعاد تعريفها لتخدم مصالح السوق أو السلطة.
كل ذلك لا يحدث بالصدفة، بل هو نتاج هندسة دقيقة للوعي، يتولاها خبراء إعلام، ومنظرو دعاية، ومراكز دراسات تُغلف عملها بلغة "الأمن الثقافي" أو "التنمية الإعلامية".
كيف نكتشف أننا ضحية لهذا الاختراق؟
- حين نشعر برد فعل جماعي متطابق، فلنسأل: هل هذا نابع من وعي ذاتي، أم أنه تم تلقينه لنا؟
- حين نجد أن "رأي الأغلبية" يتكرر بنفس المفردات في كل مكان، فلنفتش عن مصدر الخطاب لا صداه.
- حين نرى أن المفاهيم تتغير دون مناقشة عامة حقيقية، فاعلم أن هناك من يعيد تعريف العالم لك من وراء الستار.
استعادة الوعي: كيف نقاوم الاختراق؟
-
بناء الوعي الفردي الناقد
الفرد هو آخر حصن ضد الاختراق. حين يفكر، ويسأل، ويراجع، ويشك، فإنه يوقظ العقل الذي تسعى المنظومة إلى تخديره. -
تنويع مصادر المعرفة
لا يكفي أن نسمع من وسائل الإعلام المحلية، بل يجب الانفتاح على أصوات مختلفة، شرط أن نقرأها بوعي لا بتقديس جديد. -
العودة للأسئلة الجذرية
لا تكتفِ بالإجابات الجاهزة. اسأل دومًا: من أنا؟ ماذا يعني أن أكون حرًا؟ من يحدد القيم؟ ولماذا أقتنع بهذا الرأي تحديدًا؟
خاتمة: معركة الوعي هي المعركة الأخيرة
اختراق الوعي الجمعي لا يحتاج دبابات، بل يحتاج سردية تُكرَّر حتى تبدو حقيقة، ومشاعر تُستثار حتى تعمي العقل، وأكاذيب تُلمَّع حتى تغدو مبادئ.
لكن المجتمعات التي تستفيق، لا تُخدع مرتين.
وحين يسترد الفرد وعيه، لا يمكن استعباده، لا من الخارج، ولا من الداخل.