كيف خلف المسلمون الروم والفرس معًا؟

قراءة في التحوّل التاريخي من القوة إلى الفكرة

في زمنٍ كانت فيه الإمبراطوريتان الرومانية والفارسية تتقاسمان العالم المعروف، بزخمه العسكري وأساطيره الثقافية، خرجت من جزيرة العرب دعوةٌ بسيطة لا تملك جيشًا ولا ملكًا، لكنها كانت تحمل مشروعًا يفوق الطموحات الأرضية جميعها. وبعد أقل من قرن، سقطت أعتى عروش الأرض تحت أقدام جيلٍ جديد، لم يكن هدفه الغزو بقدر ما كان يحمل يقينًا بأنه يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
فكيف استطاع المسلمون أن يُخلفوا الروم والفرس معًا؟


وكيف انتقلوا من أطراف العالم إلى مركزه في زمن قياسي؟
وهل كان السيف وحده كافيًا لتغيير وجه التاريخ؟

في هذا المقال، نقترب من الإجابة بتحليل سياقات السقوط والنهوض، بعيدًا عن السرديات الرسمية، ونقرأ هذا التحول العظيم من زاويتين: القوة والسردية الحضارية.


السقوط من الداخل: حين يهزم النظام نفسه

قبل أن يظهر الإسلام على مسرح الأحداث، كانت الإمبراطوريتان الرومانية (البيزنطية) والفارسية (الساسانية) تعانيان من تشققات داخلية عميقة:

  • الروم البيزنطيون مارسوا قمعًا طائفيًا قاسيًا ضد كل من خالف الكنيسة الرسمية، خاصة في الشام ومصر، حيث اضطهدوا الأقباط والسريان، مما هيّأ هذه الشعوب للترحيب بالقادمين الجدد.
  • الفرس الساسانيون غرقوا في طبقية مقيتة، ودخلوا في صراعات على السلطة، مع إرهاق اقتصادي كبير نتيجة الحروب الطويلة مع الروم. كانت دولتهم تبدو قوية من الخارج، لكنها منهكة ومتصحّرة فكريًا من الداخل.

لم يكن المسلمون هم من أسقطوا هذه الدول الكبرى، بل هذه الدول كانت قد أنهكت نفسها، وجاء الإسلام فقط ليملأ الفراغ بقوة جديدة أكثر عدلًا وبساطة وتماسكًا.


السيف والعقيدة: لحظة التحول الكبرى

في أقل من عقدين من الزمان بعد وفاة النبي محمد ﷺ، خاض المسلمون سلسلة من المعارك الحاسمة:

  • معركة اليرموك (636م): كسرت العمود الفقري للوجود البيزنطي في الشام.
  • معركة القادسية (636م) ثم نهاوند (642م): فتحت أبواب المدائن وأسقطت الدولة الساسانية بالكامل.

لكنّ هذه الانتصارات لم تكن مجرد توسع جغرافي.
بل كان ثمة مشروع فكري حضاري يتحرك خلفها: مشروع يوحّد البشر لا تحت عرقٍ واحد، ولا لغةٍ واحدة، بل تحت التوحيد وكرامة الإنسان.

لقد تحرّكت جيوش المسلمين بروحٍ جديدة: لا للنهب أو الاستعباد، بل لتحرير الناس من الأنظمة التي صنعت فيهم عبيدًا باسم الأباطرة أو الكهنة أو النار المقدسة.

من السقوط إلى البناء: حين تتجاوز الفكرة حدود السيف

خلال قرنين فقط، انقلبت الموازين الحضارية:

  • انهارت أثينا وروما والمدائن كمراكز للفكر، وظهرت بغداد وقرطبة والقاهرة كمراكز علم وفلسفة وطب وفلك وترجمة.
  • لم يسرق المسلمون حضارات الفرس والروم، بل امتصوا جوهرها، وفكّكوا نواقصها، وأعادوا تركيبها على أرضية توحيدية أخلاقية، تمزج بين العقل والنص، وبين الإيمان والتجربة.
  • ظهرت نماذج حضارية غير مسبوقة: مستشفيات عامة، بيت الحكمة، مدارس علمية مفتوحة، فقه إنساني، نظم محاسبة، تداول فكري متعدد اللغات والثقافات.

جوهر التفوق: تجاوز الخصم لا تقليده

التفوق الحقيقي لا يعني فقط إسقاط العدو أو تقليده، بل تجاوزه على كل المستويات. وقد فعلها المسلمون حين:

  • خلّفوا الروم والفرس في نظم الحكم بعد أن تجاوزوا الفرد الإلهي والإمبراطور المقدس، ليؤسسوا نظمًا شوروية قائمة على المحاسبة والتداول.
  • خلّفوهم في نظم العلم، حين لم يكتفوا بترجمة اليونان، بل أضافوا مفاهيم الجدل الكلامي، وأصول الفقه، والمنهج التجريبي، وعلوم اللغة والحديث التي لم يعرفها من قبلهم أحد.
  • خلّفوهم أخلاقيًا، حين حوّلوا الانتصار من لحظة انتقام إلى فرصة تحرر، فلم تُهدم كنيسة، ولم تُنتزع هوية، ولم يُفرض دين.


حين يتفوّق المهمّشون

إن أعظم ما في قصة المسلمين الأوائل أنهم كانوا مهمّشين عالميًا. لم تكن الجزيرة العربية في حسابات الإمبراطوريات، ولم يكن أحد يرى في أهلها مشروعًا مستقبليًا.

لكن، وكما يحدث دائمًا في التحولات التاريخية الكبرى، خرج الفاعلون من الهامش لا من المركز.
وخرج مشروع الإسلام من الصحراء ليُحدث زلزالًا حضاريًا، لأن ما يحمله كان يتجاوز حسابات القوة، ويعيد تعريف معنى الإنسان، ومعنى العدل، ومعنى الرسالة.


الختام: ما الذي بقي من التفوق؟

لقد خلّف المسلمون الروم والفرس، لكن السؤال الأهم:
هل نحمل اليوم ذلك المشروع الحضاري الذي جعلنا نخلفهم؟
أم بتنا مجرد أحفاد لإمبراطورية زالت، لا نملك منها إلا التاريخ؟

التفوق ليس لحظة مجد، بل رؤية مستمرة.
ومن لا يحمل رؤيته، سيُستبدل… كما استُبدل من سبقوه.

أحدث أقدم
🏠