في زمنٍ اختلطت فيه المهام والولاءات، لم يعد من السهل تمييز الحارس من المتسلل، ولا المدافع من المعتدي. في هذا المشهد الرمزي، يقف كلب الراعي بفخرٍ فوق تلةٍ مطلّة، لا يحرُس قطيعه، بل يُراقب قطيع الجار. لا ينبح حين يقترب الخطر من بيته، بل ينهش أغنام الجار بذريعة الأمن.
إنها المفارقة التي تلخص واقعًا سياسيًا عربيًا مأزومًا، باتت فيه أجهزة الحماية خادمة لأجندات لا علاقة لها بأمن الداخل، بل بأمن "الراعي الخارجي" الذي يحدد العدو والصديق، ويعيد تعريف معنى التهديد والسيادة.
من يحرس من؟ إعادة تعريف دور الحارس
في المنطق الطبيعي، يُنتظر من كلب الراعي أن يحرس قطيعه، يدفع عنه الذئاب، ويهشّ على المعتدين. لكنه حين يُدرّب على طاعة سيدٍ آخر، تتبدّل وظائفه: يصبح أداة للمراقبة، أحيانًا للبطش، وأحيانًا للتجسس على الجيران بدل حماية الدار. هذا ما نراه اليوم في أنظمة عربية توظف أدوات أمنها واستخباراتها لا لصالح مواطنيها، بل وفق خريطة مصالح تُملى من عواصم بعيدة.
عقيدة "الأمن بالوكالة": حين تُستورد السيادة
لم تعد "السيادة" في بعض الأنظمة إلا واجهة خطابية. فالاعتماد على شركات أمنية أجنبية، أو برامج تجسس إسرائيلية، أو تحالفات استخباراتية مع قوى كبرى، يكشف أن الحماية لم تعد تُصنع من الداخل. إن ما يسمى "تعاونًا أمنيًا" يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى نمط من الإدارة بالوكالة، حيث يُعاد تعريف الخطر الداخلي والخارجي بحسب ما يناسب الحليف الأجنبي، لا ما يهدد الشعب فعليًا.
الجار كمتهم افتراضي: من يصنع صورة العدو؟
تُبنى سرديات "الخطر الخارجي" في كثير من الأحيان بطريقة تبريرية. فالجار يُصوَّر كمصدر تهديد محتمل، لا لشيء إلا لأنه يرفض الخضوع، أو لأنه يعبّر عن استقلال في القرار. هكذا يصبح قطيع الجار مبررًا لعسكرة الداخل، ولمزيد من الانصياع للخارج. وبين "محور المقاومة" و"محور الاعتدال"، تُوزّع الولاءات الأمنية، ويُحدَّد من يجوز التنصت عليه ومن يجب قصفه، لا بناءً على تهديد حقيقي، بل بناءً على منسوب الطاعة السياسية.
حين يُفترس القطيع: أمثلة من الواقع العربي
في عدة محطات، رأينا كيف تم التضحية بشعوب كاملة حفاظًا على "أمن" أنظمةٍ حليفة لقوى كبرى. ففي العراق، قدّمت تقارير أجهزة أمنية مبررات للغزو. في مصر، تم التعاون مع شبكات دولية لمراقبة المواطنين. في الخليج، استُعين بمرتزقة لقمع انتفاضات محلية. في فلسطين، يُنسّق أمنيًا مع الاحتلال بحجة "منع الفوضى". المشهد يتكرر: الراعي لا يحرس القطيع، بل يحرس حدود السيد الذي يطعمه.
بين الخوف والحرية: الأمن الحقيقي لا يُستورد
الخوف أداة فعالة لصناعة الطاعة. لكن الأمن الذي يُبنى على الخضوع لا يصمد. فكلما ازدادت التبعية في المجال الأمني، كلما تقلّصت السيادة. وكلما تمّت عسكرة الداخل بذريعة الخطر الخارجي، كلما اختنقت الحريات. والحقيقة أن الحرية لا تتناقض مع الأمن، بل هي شرطه. أما من يجعل الحرية مصدر قلق، فهو لا يبحث عن الأمن بل عن السيطرة.
خاتمة: حين ينبح الكلب في الاتجاه الخطأ
ليست المشكلة في كلب الراعي، بل في من يوجهه. فحين يخطئ الهدف، ينبح على الجار ويترك الذئب يسرح في الحقل. وحين يُستأمن على غير داره، يصبح أداة لنهش القريب بدل حماية القريب. والسؤال الأخطر اليوم: من يكتب خرائط الخطر؟ ومن يحدد العدو؟ وأي قطيع يُستحق الحماية؟ إن معركة الوعي تبدأ من هنا: من إعادة تعريف معنى الحماية، وطرح سؤال بسيط لكنه مخيف: هل الحارس يحرسنا، أم يراقبنا لصالح غيرنا؟