كرة القدم كأداة إلهاء ممنهجة: لماذا يستمر الناس رغم علمهم بالحقيقة؟

في زمن تتسارع فيه وتيرة التهميش السياسي، والانهيار الاقتصادي، وتضييق فضاءات التعبير، يصبح من الضروري إيجاد بدائل جماعية تمنح الناس شعورًا كاذبًا بالحرية والانتماء والانتصار. وهنا تتقدم كرة القدم، لا كلعبة فحسب، بل كنظام نفسي سياسي ثقافي كامل، يُعيد هندسة الوعي الجماهيري دون أن يشعر أحد.
ما الذي يدفع الشعوب – رغم معرفتها المتزايدة بأن كرة القدم تُستخدم كوسيلة إلهاء سياسي – إلى الاستمرار في الانغماس فيها بهذا القدر؟ ولماذا تتغذى الأنظمة على تعصب الجماهير وتفانيهم في الولاء للأندية والمنتخبات، أكثر مما تتغذى على وعيهم الوطني أو تفكيرهم النقدي؟

هذه ليست مجرد مصادفة ثقافية، بل سياسة ممنهجة لإدارة الوعي العام بالمُتعة بدلًا من المواجهة.


المتعة كغطاء: كيف تتحول اللعبة إلى آلية ضبط جماهيري؟

كرة القدم بريئة في جوهرها، لكنها تُوظف بعناية. الأنظمة لا تخشى المتعة بحد ذاتها، بل تخشى أن تُوظف المتعة في الوعي أو التمرد. لذلك، تُعاد هندسة المتعة لتخدم غايات السيطرة. تصبح المباراة حدثًا وطنيًا أكثر من مناسبة سياسية، وتُمنح مشاعر الانتماء والولاء مساحة صاخبة في الملعب، كي لا تبحث عن صدى في الشارع.


الانتماء الزائف: حين نبحث عن نصر لا نملكه

في مجتمعات مقهورة، تُصبح كرة القدم مسرحًا بديلاً للانتصار. يهتف الناس لفريقهم لأنهم لا يستطيعون الهتاف لوطنهم. يتعصبون للنادي لأنه الوحيد الذي يشعرهم بأنهم جزء من "قضية" رابحة، ولو كانت وهمية. إنهم يعوّضون غياب المشروع الوطني بمشروع رياضي وهمي، تمنحه الدولة كل الأدوات ليبدو أهم من الحقيقة.


تفريغ الغضب: صندوق الرمل الآمن

يُسمح للمواطن أن يصرخ، أن يغضب، أن يسب، أن يتظاهر، بشرط أن يفعل ذلك في المدرجات لا في البرلمان، على وسائل التواصل لا في الشوارع. كرة القدم توفر للأنظمة مساحة تفريغ عاطفي آمنة، تنفّس فيها الشعوب قهرها، دون أن تهدد النظام القائم. هي نوع من العلاج الجماعي، الذي يُسكّن الألم بدلًا من علاجه.


صناعة النجم... بدلًا من البطل

حين تغيب البطولة الحقيقية، يُعاد توجيه العاطفة الجمعية من "القائد الملهم" إلى "النجم الرياضي". يصبح الهداف رمزًا للأمل، وتُصنع حوله هالة بطولية تتجاوز الملعب. هكذا يتحول الأمل الشعبي من الحلم الجماعي إلى فرد رياضي يُنقذنا بهدف، بدلًا من مشروع يُنقذنا من التبعية والتخلف.


وهم الاختيار: حين تُقنعك السلطة أنك اخترت القيد

الناس لا يُخدَعون بكرة القدم، بل يُخدَعون بفكرة أنهم أحرار في حبهم لها. الإعلام لا يجبرهم على الانغماس، بل يصنع نظامًا رمزيًا يُقنعهم أن هذا الشغف طبيعي، شخصي، حر. والواقع أن الترفيه، حين يُصبح المساحة الوحيدة المتاحة، يتحول إلى قيدٍ اختياري: العبد لا يرى السلاسل، بل يرى حلبة الاستعراض.


لماذا يستمر الناس رغم إدراكهم للعبة؟

  • لأن البديل مغيب أو مجهض: لا توجد مشاريع فكرية، ثقافية، سياسية، تُشبع حاجات الانتماء والهوية.
  • لأن اللعبة ممتعة فعلًا، والوعي لا يُبطل المتعة، بل يزيد التناقض الداخلي.
  • لأن المجتمع بأكمله أصبح منظومة هوية مرتبطة بالرياضة: من الإعلام إلى المدرسة، من الشارع إلى الخطاب الرسمي.
  • لأن السلطة نفسها تُقدّم كرة القدم كواجب وطني، وتُعلّبها بسرديات دينية وأخلاقية، حتى يُصبح نقدها "خيانة للفرح الوطني".


الخاتمة: حين تُصنع العقول بالمتعة

ليست كرة القدم هي الخطر، بل استغلالها لتوجيه وعي الشعوب نحو هوامش الانتصار بدلًا من جذوره. حين تُختزل الأمة في فريق، والحلم في مباراة، والانتماء في شعار، نكون قد خسرنا معركتنا الحقيقية دون أن نلعبها.

فالوعي لا يُصاغ فقط بالكلمات، بل أحيانًا... بالتصفيق.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.