الفقر المُصنَّع: كيف تُفقر الشعوب عن قصد؟

صناعة الفقر: الأساليب والأهداف
في عالم تزدهر فيه التقنيات وتتضاعف فيه الثروات، يظل الفقر ظاهرة متفشية لا تزول، بل يُعاد إنتاجها بآليات أكثر تعقيدًا وخبثًا. والسؤال الجوهري هنا لم يعد: "لماذا يوجد فقر؟"، بل أصبح: "من يصنع الفقر؟ وكيف؟ ولماذا؟". 

فالفقر لم يعد مجرد نتيجة عرضية لسوء الحظ أو غياب التنمية، بل بات - في كثير من الأحيان - صناعة مدروسة تُخدم بها مصالح قوى اقتصادية وسياسية تتغذى على هشاشة الآخرين.


أولًا: الفقر كأداة سيطرة

الفقر ليس فقط حرمانًا ماديًا، بل هو آلية فعّالة لإخضاع الشعوب وتطويعها. حين يُحرم الإنسان من أبسط حاجاته، يصبح أكثر قابلية للامتثال، أقل استعدادًا للتمرد، وأكثر تمسكًا بأي فتات يُلقى له. لهذا، فإن بقاء شريحة واسعة من السكان في دائرة الفقر يخدم أهدافًا سلطوية عميقة:

  • إضعاف المقاومة الشعبية: إذ لا يُنتظر من الجائع أن يُطالب بالعدالة أو الحرية، بل يُنتظر منه فقط أن يبحث عن لقمة يسد بها رمقه.
  • استدامة النفوذ السياسي: حيث تستخدم الأنظمة الفقر كوسيلة لشراء الولاءات وتجييش العواطف، خاصة في أوقات الانتخابات أو الأزمات.

ثانيًا: أدوات صناعة الفقر

إن صناعة الفقر لا تُدار بالصدفة، بل تُمارس عبر أدوات اقتصادية وتشريعية وإعلامية تتقاطع في هدفها النهائي: تكريس التبعية والهشاشة. ومن أبرز هذه الأدوات:

1. الديون وفوائدها المركّبة

تُغرق المؤسسات المالية الدولية – كصندوق النقد والبنك الدولي – الدول النامية في دوامة من القروض المشروطة، لا تُصرف لتنمية حقيقية، بل تُفرض معها "روشتات تقشفية" تدمر الخدمات العامة، وتفتح الأسواق للاستغلال الخارجي.

2. الخصخصة العشوائية

تُباع ممتلكات الدولة للقطاع الخاص بأسعار بخسة، فيُفقد الفقراء وسائل دعمهم الأساسية، من صحة وتعليم ونقل، ويُدفعون دفعًا نحو السوق الاستهلاكي، دون حماية أو ضمان اجتماعي.

3. الضرائب غير العادلة

بينما تُعفى النخب الاقتصادية من الضرائب أو تُخفض نسبتها، تُفرض الضرائب المباشرة وغير المباشرة على الطبقات المتوسطة والفقيرة، فيُنهك ما تبقى من دخلهم المحدود.

4. الإعلام الاستهلاكي والتضليل الرمزي

يُروّج الإعلام لمفاهيم مزيفة عن "النجاح" و"الكسل" و"الفرص المتاحة للجميع"، ليقنع الفقير أنه هو المسؤول عن وضعه، في حين يُحجب الحديث عن البُنى الاقتصادية الجائرة التي تمنع الصعود وتُقصي الملايين من منظومة الإنتاج العادل.


ثالثًا: الأهداف الخفية لصناعة الفقر

وراء هذه السياسات ليست هناك مجرد عشوائية أو سوء تدبير، بل مشروع متكامل يستهدف إعادة توزيع الفقر والثروة بطريقة تعزز من تحكم القلة:

  • تكريس نظام التبعية العالمية: إذ يُبقي الفقر دول الجنوب تحت رحمة الشمال، تستورد غذاءها، تستدين لميزانياتها، وتُفرّغ عقولها وكفاءاتها نحو الهجرة.
  • إعادة تشكيل الوعي الجماعي: عبر تطبيع الفقر، وتجريده من سياقه السياسي، وتقديمه كقدر محتوم أو نتيجة لـ"عدم الكفاءة الفردية"، لا كسياسة مفروضة من الأعلى.
  • تحييد الطبقة الوسطى: عبر إفقارها التدريجي، لتفقد دورها التاريخي كقاطرة للتغيير، وتتحول إلى طبقة مرعوبة من الهبوط، لا ثائرة على الظلم.

رابعًا: حين يصبح "الفقر" موردًا اقتصاديًا

الأدهى من كل ما سبق، أن الفقر ذاته أصبح موردًا اقتصاديًا يُستثمر فيه:

  • برامج المساعدات الدولية تدر أرباحًا على الشركات الكبرى عبر عقود الاستيراد والتوريد.
  • المنظمات غير الحكومية تبني لنفسها وظائف وبيروقراطيات ضخمة "لخدمة الفقراء"، دون أي نية حقيقية لإنهاء الفقر.
  • سوق العمل الرخيص يعتمد على وجود فقراء مستعدين للعمل بأدنى الأجور، مما يخفض تكلفة الإنتاج ويزيد أرباح الشركات.


ختامًا: الفقر كخيار سياسي

لا يُعالج الفقر بإلقاء اللوم على الفقير، ولا بالتحسر على "الظروف"، بل بفهم المنظومات التي تُنتجه وتعيد تدويره. الفقر، في كثير من الأحيان، ليس نتيجة فشل اقتصادي، بل هو خيار سياسي مدروس تتخذه النخب لتبقى على القمة، وتُبقي البقية في القاع. وإذا أردنا أن نحارب الفقر حقًا، فعلينا أن نبدأ بفك شيفرة من يصنعه، ولماذا، وكيف.


سلسلة مقالات في مواضيع موسعة:

 خرائط التفقير: حين تُدار الدول كحقول موارد

أحدث أقدم
🏠