الروتين بوصفه سلاحًا ناعمًا: حين تتحول البيروقراطية إلى أداة ترويض

حين يقف المواطن في طابورٍ طويلٍ أمام نافذة متهالكة في دائرة حكومية، قد يظن أن ما يعيشه من تأخير وضياع للوقت ناتج عن الإهمال، أو قلة الموارد، أو ضعف الإدارة. لكن الحقيقة التي يصعب تقبّلها أحيانًا أن هذا "الروتين" ليس دائمًا صدفة... بل هو منظومة مدروسة، تخدم في عمقها أهدافًا أبعد من مجرد تنظيم العمل الإداري. 

إنها وسيلة لترويض الناس، وتكريس السطوة، وإعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة.


بيروقراطية مملة أم منظومة سيطرة؟

ما نراه من تعقيد في الإجراءات، وتكرار للأختام، وتعدد للتوقيعات، لا يمكن تفسيره دائمًا بعجز الكفاءات أو غياب الرقمنة. فهذه مشكلات قابلة للحل تقنيًا، لكنها تبقى قائمة لعقود بلا مبرر. وهذا يثير السؤال الجوهري:
هل يُراد لهذه المتاهة أن تظل قائمة؟

الجواب الأرجح: نعم. فكلما ازداد تعقيد الطريق، ازداد احتياج الناس لمن "يعرف الطريق". وهكذا يُعاد إنتاج مناخ المحسوبية، حيث لا تسير المعاملات إلا عبر الواسطة أو الدفع، وتتكرس بنية خفية من "السماسرة الإداريين" داخل الجهاز البيروقراطي نفسه.


كيف يتحول الروتين إلى أداة ترويض؟

1. قتل الإرادة وتكريس اللامبالاة

عندما يُرهَق الإنسان بطلب ورقة من هنا وأخرى من هناك، ثم يُقال له "تعال الأسبوع القادم"، تتشكل لديه قناعة لا واعية بأن التغيير مستحيل، وأن "هكذا هو الحال منذ الأزل". هذه القناعة لا تُضعف فقط إحساسه بحقوقه، بل تجعله يقبل المذلة على أنها نمط حياة.

2. شرعنة الفساد تحت مظلة "الحلول السريعة"

حين تصبح المعاملة شبه مستحيلة بدون "دفع"، يتحول الفساد إلى ضرورة غير معلنة. فبدلاً من أن يُنظر للرشوة كممارسة غير قانونية، يُنظر لها كـ"إكرامية" أو "تسهيل". هكذا يُعاد تشكيل المنظومة الأخلاقية، ويُقلب ميزان الحق والباطل باسم الواقعية.

3. صناعة طبقة متنفذة داخل الدولة

الروتين يخلق طبقة من "العارفين"، أولئك الذين يعرفون من أين تبدأ المعاملة وأين تنتهي. وهم من يملكون مفاتيح الوصول، ويُصنَّفون ضمن "النافذين الصغار"، ممن لا تملكهم الدولة بل يملكونها فعليًا. هؤلاء يصبحون حراس البوابة، وكلما اشتد التعقيد، ازداد نفوذهم.


الدولة كمتاهة: عندما تكون الفوضى سياسة

في كثير من الدول ذات الأنظمة المتسلطة، يُترك التعقيد الإداري قائمًا عمداً، ليبقى المواطن في حاجة دائمة لرضى الموظف أو استثناء من المسؤول. فالبيروقراطية هنا ليست أداة تنظيم، بل شبكة من الحواجز النفسية والعملية، تُعيد صياغة المواطن ككائن خانع، يلهث خلف توقيع، ويتوسل من أجل ختم.


هل الإصلاح مستحيل؟

الإصلاح ممكن، بل سهل تقنيًا، لكن ليس مرغوبًا سياسيًا في أنظمة لا ترى في المواطن شريكًا، بل تابعًا. فتبسيط الإجراءات ورقمنتها يحرر الإنسان من عبودية الانتظار، ويجعل العلاقة بينه وبين الدولة قائمة على الحقوق، لا على الامتنان... وهذا ما لا تحتمله منظومات تُبنى على الخوف، لا على الثقة.


خلاصة نقدية

الروتين في الدوائر الحكومية ليس مجرد سوء تنظيم، بل في كثير من الأحيان سلاح ناعم يُستخدم لتدجين الناس، وتكريس التبعية، وإنتاج علاقة مختلّة بين الدولة ومواطنيها. وإذا أردنا أن نكشف عن جذور هذا المرض، فعلينا أن نرى في كل ختمٍ مكرر، وكل توقيعٍ ممل، مشروعًا سياسيًا صغيرًا لإخضاع البشر.

لا خلاص من هذا القيد إلا ببناء دولة القانون، حيث لا يعلو الموظف على النظام، ولا يحتاج المواطن إلى إذلال كي يُعترف بحقه.

أحدث أقدم
🏠