
إنها ليست حكاية خرافية، بل إسقاط مرير على ما يجري في عالمنا من إدارة للوعي الجماهيري بمنطق السجّان لا بمنطق الإصلاح.
المشهد الرمزي:
في زنزانة ضيقة، حُبس عشرة مساجين فشكوا الزحام.
فما كان من السجان إلا أن أضاف عشرة آخرين!
تضاعف الضيق، وارتفع أنين الشكوى.
لكن لم يكتفِ السجّان بذلك، بل أدخل إلى الزنزانة خنزيرًا قذرًا ينشر الرائحة والقرف.
احتدّت الاحتجاجات، وتعالى الصراخ: أخرجوا هذا الحيوان المقزز!
فما كان من السجّان إلا أن أخرج الخنزير فقط،
فإذا بالسجناء يهلّلون فرحًا، ويشكرون السجان "اللّطيف"، و... ينسون الزنزانة، والزحام، ومظلمتهم الأولى.
حين تتحول الجماهير إلى أسرى للمقارنة المنحازة
المفارقة ليست في إدخال الخنزير، بل في الاحتفال بإخراجه.
لقد نجحت السلطة في نقل مركز الألم من السجن المزدحم إلى الحيوان المزعج، ثم قدمت نفسها كمُخلّص عبر "إصلاح جزئي". والنتيجة؟
شُكرت بدل أن تُدان.
هكذا تُصنع إدارة القبول في المجتمعات:
حين ينهكك النظام بسلسلة من الضغوط، ثم يمنحك تنازلًا شكليًا أو مؤقتًا، تبدو لك الحياة أكرم مما هي، فيرضى المقهور بما لا يُرضى.
تطبيقات "استراتيجية الخنزير" في الواقع السياسي:
1. الإصلاحات الوهمية:
ترفع الحكومات الضرائب بشكل مفاجئ، ثم تعلن بعد الاحتجاجات عن "خفض 10%"، فيتنفس الناس الصعداء، وكأن الظلم قد رُفع، متناسين أن الزيادة كانت ظالمة من الأصل.
2. الاحتجاج المُدار:
تُفتعل أزمة جانبية (خنزير إعلامي)، وتُشحن العواطف تجاهها، ثم يُسحب هذا "العدو" فجأة، فيشعر الجمهور أن صوته قد سُمِع، بينما يستمر الخلل البنيوي بلا مساءلة.
3. المجتمع كرهينة للنكبات:
يُخنق الناس بالأزمات: كهرباء، ماء، دواء، ثم يُعاد توفير أحدها فقط، فيُقابل هذا بـشكر عاطفي، وتُعاد صياغة المعاناة باعتبارها "تحسّنًا" وليس "مأساة مستمرة".
إعادة برمجة الإدراك الجمعي
في العمق، لا تتعلق "استراتيجية الخنزير" بالمحتوى الظاهري للأحداث، بل بـ تحويل نقاط التركيز داخل العقل الجمعي.
ما يجري هو نوع من "الهندسة النفسية"، حيث يتم:
- إغراق الوعي العام بمشكلة فرعية طارئة.
- تصوير إزالة تلك المشكلة كمنجز عظيم.
- إخماد الأصوات المطالبة بالإصلاح الحقيقي.
بهذا المنطق، تُدفن قضايا الحرية، والعدالة، والكرامة، تحت ركام "الامتنان الزائف" على شيء لم يكن ينبغي وجوده أصلًا.
الخاتمة:
السجّان الذي يُدخلك الزنزانة، ثم يُخرج منها الخنزير، لا يستحق الشكر.
والمجتمع الذي يرضى بالتخلص من الرائحة، ويقبل بالسجن، هو مجتمع تمّت إعادة تشكيل وعيه دون أن يشعر.
الوعي لا يُقاس بدرجة التحسن، بل بمدى إدراك الظلم، ورفضه، والقدرة على تسمية الأشياء بأسمائها، لا بأسماء السجانين.