
مصر مركز الثقل العربي
مصر كانت ولا تزال من الناحية الجيوسياسية تمثل مركز الثقل العربي. بتعداد سكاني يتجاوز المئة مليون، وجيش يُعد من أقوى الجيوش الإقليمية، وبموقع استراتيجي يربط آسيا بإفريقيا، والشرق بالغرب، فإن إفقار هذا البلد يفقد الأمة رافعتها الكبرى في لحظات الحاجة. إن مصر الفقيرة لا تستطيع أن تقود، ولا أن تحمي، ولا أن تُصدر مشروعًا حضاريًا. بل تصبح عبئًا على جيرانها، وعُرضة للاستغلال من قبل القوى الكبرى.
انهيار التعليم والثقافة: انطفاء المنارة
لقد كانت مصر في القرن الماضي منارةً فكرية، خرّجت أعلام الفكر والأدب والفن والعلوم في العالم العربي. وحين يُسحق المواطن المصري تحت خط الفقر، ويتحول التعليم إلى وسيلة للبقاء لا وسيلة للارتقاء، فإن الحصيلة ليست فقط تدهورًا محليًا، بل انطفاءً للمنارة التي أضاءت الطريق لكثير من العقول في ربوع الأمة. من ذا الذي يملأ فراغ العقل المصري في صناعة الثقافة العربية؟ لا أحد.
تدمير الطبقة الوسطى: تفريغ المجتمع من القوة الدافعة
إن الطبقة الوسطى في أي مجتمع هي القاطرة التي تقوده نحو التقدم والاستقرار. وعندما تُجبر على الانحدار إلى حافة الفقر بسبب السياسات الاقتصادية الجائرة، فإنها تفقد قدرتها على الإنتاج المعرفي، والإبداع، والمساهمة السياسية الواعية. وهذا لا ينعكس على مصر وحدها، بل على العقل العربي ككل، إذ لطالما كانت هذه الطبقة المصرية هي المحرك لنهضة عربية شاملة.
الفقر والتبعية: استدعاء الهيمنة الخارجية
تفقير مصر لم يكن مجرد نتيجة، بل أداة. فالاقتصاد الخانق يصنع قرارًا سياسيًا مكبّلاً، ويخلق مجتمعًا هشًا قابلًا للاختراق. حين تُجبر الدولة على الاقتراض المشروط، وحين يُفقر الشعب حتى يقبل بالقمع مقابل لقمة عيش، فإن البلاد كلها تصبح مهيأة لأن تُدار من الخارج. وما يُدار من الخارج لا يمكن أن يُبنى عليه مشروعٌ داخليٌّ للأمة.
التأثير الوجداني الجمعي: كسر الروح العربية
لا يُستهان بتأثير مصر الرمزي في الوجدان العربي. فحين يرى المواطن العربي أن القاهرة، أمّ الدنيا، تتهاوى في الذل الاقتصادي والفساد والتبعية، فإن شيئًا من روحه ينكسر. لأن مصر، بكل ما لها من رمزية حضارية، تمثل عند الشعوب العربية نموذجًا للأمل أو للانكسار. تفقيرها هو تجفيف لنبعٍ وجداني مشترك، وضربٌ لهويةٍ عربيةٍ كانت تستمد من مصر بعض كرامتها.
خاتمة: عندما يُفقر القلب، تنزف الأطراف
حين يُفقَر شعب مصر، لا يُفقَر شعب واحد، بل تفقر الأمة في فكرها وثقافتها وكرامتها. لأن مصر ليست هامشًا، بل هي القلب. وإذا نزف القلب، فلن تبقى الأطراف سالمة. إن ما خسرته الأمة من تفقير مصر ليس ماديًا فقط، بل هو خسارة لمصدر من مصادر النهوض، وأحد آخر معاقل القوة المتبقية. والمفارقة أن هذه الخسارة، رغم عمقها، لا تزال قابلة للاسترجاع... لو أدركت الأمة قيمة ما تفقده كل يوم.
