
الوظيفة كوسيلة أم كمصيدة؟
في الأصل، الوظيفة وسيلة لخدمة الإنسان لا العكس. لكنها في الواقع الحديث، كثيرًا ما تتحول إلى غاية لا تُناقَش، يُنصح الشاب بأن "يمسك بها بيديه وأسنانه"، حتى لو كانت تقتل إبداعه وتطفئ ذاته. يغدو الإنجاز هو "الحضور والانصراف"، والتقدم هو "الترقية في الدرجة"، بينما تتآكل الرغبة في المغامرة أو التجديد تحت وهم الاستقرار والخوف من المجهول.
إن المصيدة هنا لا تتمثل في العمل بحد ذاته، بل في الانخداع بأن "هذا هو المتاح"، وبأن الطموح ترف، والتمرد مراهقة، والسعي للتغيير ضرب من الجنون.
وهم الاستقرار مقابل واقع الخدر
الاستقرار الذي تقدّمه الوظيفة الروتينية لا يحرّر الإنسان، بل يخدّره. فهي تؤمن له الحد الأدنى من المال، ولكنها تسلبه التحكم بوقته، وتسرق منه المعنى الذي قد يجده في الإنتاج الحر، أو العمل الإبداعي، أو حتى في تجربة جديدة مليئة بالمخاطرة.
يمضي العمر على شكل جدول أعمال مملّ، يتكرر فيه الأسبوع كنسخة باهتة من الذي قبله، بينما تتراكم الأحلام المؤجّلة على رف الحياة. وحين يستفيق المرء، بعد سنين، قد لا يتذكر من سيرته سوى جملة واحدة: "كان موظفًا ملتزمًا".
صناعة القناعة المزيفة عبر الإعلام
وسائل الإعلام تلعب دورًا محوريًا في تكريس هذا الأسر، إذ تروّج لقيم الطاعة، والانضباط الوظيفي، والولاء التام للمؤسسة، وتُشيطن كل دعوة للخروج عن هذا السياق، حتى لو كانت دعوة إلى استعادة الإنسان لذاته. تسوّق قصص النجاح الفردية بوصفها استثناءً خرافيًا، وتضع أمام الناس نماذج معدّة مسبقًا، محورها الطاعة لا التحرر.
مقاومة الأسر: استعادة الوعي بالزمن والمعنى
الخروج من أسر الوظيفة لا يعني التمرد الأرعن، بل يبدأ أولًا من إدراك أن الحياة ليست مجرد راتب وتقاعد. هي مشروع ذاتي يحمل المعنى والحرية والقرار.
الوعي الزمني هنا جوهري: كم من الساعات تُهدر يوميًا في اجتماعات لا جدوى منها؟ كم من الأفكار دُفنت في أدراج المؤسسات؟ كم من الأرواح الذابلة تسير كل صباح إلى مكاتب لا تحبها ولا تؤمن بها؟
التحرر يبدأ بالسؤال: ماذا كنت سأفعل بحياتي لو لم أكن مضطرًا لهذا المسار؟ ثم يأتي القرار، ولو على مراحل، باستعادة المساحة الداخلية التي خُنقت تحت ضغط "المهام الوظيفية".
حين يعيش الإنسان على الهامش
الوظيفة الروتينية التي لا تعكس شغفًا ولا تنمّي الإنسان، تضعه على هامش الحياة. لا يعني هذا أنه بلا دور، لكنه دور متكرر، غير مؤثر، كأن الحياة تمر من حوله دون أن يكون شريكًا حقيقيًا فيها.
النجاة من هذا المصير لا تكون بالهرب، بل بالتحول: أن يحوّل الإنسان عمله إلى مساحة للتعبير، أو أن يسعى تدريجيًا إلى بناء مساره الحر، أو أن يختار الخروج من اللعبة حين يُدرك أنها لا تناسبه أصلًا.