
في كل مجتمع، يظهر من يستخف بالناس، من يسخر من أفكارهم، أو يُصغّر من إنجازاتهم، أو يُقلّل من مكانتهم لأسباب قد تبدو عقلانية ظاهريًا، لكنها في الحقيقة تخفي دوافع نفسية عميقة. هذا السلوك، الذي قد يظهر في هيئة نقد لاذع أو تجاهل مقصود أو احتقار ضمني، ليس مجرد حالة اجتماعية، بل ظاهرة نفسية تستحق التفكيك والفهم.
فلماذا يُصرّ البعض على الاستهانة بالآخرين؟ وما الذي يدفع الإنسان إلى الانتقاص من قيمة من حوله؟ إليك أبرز الأسباب النفسية الكامنة خلف هذا السلوك:
1. عقدة النقص والشعور بالدونية
كثير من الذين يُقلّلون من الآخرين يحملون في أعماقهم شعورًا غير معترف به بالنقص أو عدم الكفاية. وبدلًا من مواجهة هذا الإحساس الداخلي، يتبنّون آلية دفاعية تُعرف في علم النفس بـ"الإسقاط التعويضي"، حيث يُسقِط الفرد ضعفه الشخصي على غيره، ليبدو هو – من خلال الاستهزاء – أكثر قوة أو ذكاءً.
2. التنافس المرضي والحاجة المستمرة لتأكيد الذات
حين يصبح الآخر "خصمًا" في ساحة المقارنة، لا يُرى نجاحه إلا كتهديد. في مثل هذه الحالة، لا يكون الهدف هو الاعتراف بالتميز بل كبحه، من خلال الحطّ من قيمته. فالتقليل هنا يصبح وسيلة دفاعية لتثبيت صورة الذات المهتزّة، عبر إنكار ما يحققه الآخر من قيمة أو تفوق.
3. النرجسية المقنّعة خلف قناع "الصراحة"
البعض يبرر تقليله من الآخرين بأنه "واقعي" أو "صريح"، لكن هذا الخطاب يخفي نرجسية مموهة، تعتبر الآخرين إما امتدادًا للذات أو تهديدًا لها. لذا، لا يُمنَح الآخر حق التقدير إلا إذا طابق مقاييس المتحدث، وكأن التقدير مشروط بالتشابه أو الخضوع.
4. إسقاط الغضب المكبوت من تجارب سابقة
قد يكون من يستخف بالناس اليوم، هو نفسه من تعرّض يومًا للاحتقار أو التهميش، ولم يُشفَ من تلك الجراح. فيلجأ لا شعوريًا إلى تكرار نفس التجربة، لكن هذه المرة في موقع المعتدي لا الضحية. إنه الغضب المتحوّل إلى سلوك سلطوي يُمارس على من يُظن أنهم أضعف.
5. الجهل بالذات وبالآخر
في بعض الحالات، ينبع التقليل من الآخر من جهل حقيقي: جهل بتنوع البشر، وبقيمتهم الذاتية، وبأن الاختلاف لا يعني الانحدار. فمن لم يُدرّب على احترام التعدد، سيعتبر كل ما يخالفه "سخيفًا"، وكل من يختلف عنه "أدنى"، وهو جهل يرتدي قناع التفوق.
6. الرغبة في السيطرة وبسط الهيمنة الرمزية
في البيئات التي تُقاس فيها القيمة بالقوة أو التأثير، يُصبح الحطّ من قدر الآخرين وسيلة لتأكيد الهيمنة. فيُستخدم الازدراء كأداة رمزية للسيطرة، لا كحكم موضوعي. فالغاية ليست النقد، بل إثبات الموقع السلطوي عبر تقزيم الآخر.
7. الخوف من الاعتراف بالتميز الحقيقي
الاعتراف بتفوق الغير يتطلب نضجًا نفسيًا وتواضعًا فكريًا، وهما أمران غائبان عن كثيرين. فكلما شعر الإنسان بأن الآخرين ينجزون ما لم يستطع هو إنجازه، ازدادت حاجته إلى تبخيس هذا الإنجاز، لا لشيء إلا ليحمي صورته الذاتية الهشة.
خلاصة
من يقلل من الآخرين لا يُسقِطهم، بل يكشف ما بداخله من قلق، ونقص، وتضخم ذاتي غير مستقر. إنه سلوك لا يدل على وعي ولا على قوة، بل على جروح لم تُشفَ، وصراعات لم تُحل. والمجتمع الواعي هو الذي لا يكتفي بإدانة هذا السلوك، بل يحاول أن يفهم جذوره، ليُعالجها لا أن يُكررها.