
لكن هنا ينبغي التمييز بين مفهومين يُخلط بينهما كثيرًا: الثقافة الجمعية والسلوك الجمعي. كلاهما يعبران عن وجه من أوجه "العمل الجماعي"، لكن الأول هو البذرة الراسخة، والثاني هو الثمرة الظاهرة. الأول يُغذي، والثاني يُنفّذ. الأول بنية تحتية ذهنية، والثاني فعل فوقيّ متغير.
الثقافة الجمعية: الرواسب العميقة التي تشكل طريقة الفهم
الثقافة الجمعية هي ذلك المخزون غير المكتوب من الأفكار والمعتقدات والرموز والتجارب المشتركة، الذي يتشكل على مدى عقود بل قرون. إنها بمثابة البرنامج الخفيّ الذي يعمل في خلفية وعي المجتمع، موجّهًا تصوّراته ومقاييسه دون أن يدرك.
ليست الثقافة الجمعية هي ما يُعلّم في المدارس، بل ما يُمرّر عبر الحكايات العائلية، والإيماءات، والنكات، والأمثال الشعبية، وتفسير الحوادث. إنها الذاكرة الطويلة لمجتمع ما: ذاكرة تقول له من هو، وما الذي يستحق التقديس، وما الذي يُعتبر تهديدًا.
فحين يرى مجتمع ما أن السلطة "قدرٌ لا يُناقش"، أو أن "الغرب دائمًا متآمر"، أو أن "المرأة عورة والرجل شرف"، فهو لا يعبر فقط عن آراء، بل عن بنية ذهنية زرعتها الثقافة الجمعية.
السلوك الجمعي: رد الفعل المؤقت حين يتحرك القطيع
أما السلوك الجمعي، فهو ردود الأفعال التي تصدر عن الجماعة حين تجابه موقفًا أو أزمة أو إثارة عاطفية. يمكن أن يتخذ شكل مظاهرة، أو حملة مقاطعة، أو احتشاد جماهيري، أو حتى انكفاء تام في الصمت واللامبالاة.
السلوك الجمعي سريع التشكّل وسريع الذبول. إنه كالعاصفة التي تهب فجأة ثم تهدأ، لكنه يستمد طاقته من أعماق الثقافة الجمعية. فحين يثور الشارع العربي فجأة ضد رسم كاريكاتوري أو تصريح سياسي، ويتجاهل في الوقت ذاته قضايا أكثر عمقًا وخطورة، فإننا أمام سلوك جمعي تدعمه ثقافة جمعية انتقائية في حساسيتها.
الفرق الجوهري: العمق مقابل السطح
الثقافة الجمعية تشكل الإطار المرجعي. أما السلوك الجمعي فيشكل الفعل المؤقت. الثقافة تحدد المعايير؛ السلوك يعبر عنها وقتيًا. الثقافة الجمعية بطيئة التغير، والسلوك الجمعي سريع التقلب.
هذا ما يفسر لماذا تتكرر أنماط السلوك الجمعي، رغم تغير الأسباب. لأن القالب الذي يُصب فيه الفعل ظل كما هو: قالب ثقافي لم يُعاد النظر فيه.
أمثلة حية: من الشعارات إلى ردود الأفعال
عندما تخرج مظاهرات جماهيرية في لحظة ما تحت شعارات قومية أو دينية أو حتى رياضية، ثم تنطفئ دون أثر استراتيجي، فإننا نرى سلوكًا جمعيًا انفعاليًا يعكس ثقافة جمعية لم تُدرب على التنظيم طويل الأمد أو التفكير البراغماتي.
وعندما تندلع مواقع التواصل بحملات غاضبة على حدث معين، ثم تهدأ فجأة، دون تغير ملموس، فذلك لأن الذاكرة الجمعية تعاني من اختزال في أولوياتها، وقد اعتادت "التفريغ الانفعالي" لا "التحليل النقدي".
لماذا يهمنا التفريق بينهما؟
لأننا إذا أردنا تغيير السلوك الجمعي للمجتمع، فلا يكفي التعامل مع اللحظة، بل لا بد من تفكيك الثقافة التي تنتج تلك اللحظة. لا يكفي انتقاد التسرّع والانفعال، بل يجب مساءلة الرواسب الذهنية التي جعلت التسرّع هو الخيار الأول، والانفعال هو اللغة الوحيدة.
نحو يقظة ثقافية لا ردود فعل غوغائية
المجتمعات التي تنهض، لا تبني فقط شبكات كهرباء ومصانع، بل تعيد كتابة برنامجها الثقافي العميق. تغير طريقة رواية التاريخ، وتعيد تعريف النجاح والفشل، وتفكك الصور النمطية.
فحين تتغير الثقافة الجمعية، تصبح السلوكيات الجمعية أكثر نضجًا، وتتحول ردود الفعل من صرخات موسمية إلى استراتيجيات واعية. آنذاك فقط، لا تكون الجماهير مجرد قطيع، بل جسدًا حيًّا يعقل ما يفعل.