من هو المثقف؟ ومن هو المفكر؟

تفكيك الالتباس في الخطاب الإعلامي
في عالم يتداخل فيه الإعلام بالخطاب الثقافي، تتداخل المفاهيم وتتآكل الحدود بين الأدوار. وبينما يُستدعى "المثقف" إلى الشاشة ليُحلل، ويُستدعى "المفكر" ليُعلّق، تُصاغ العقول بما يُقال عنهم أكثر مما يقولونه هم. غير أن الفرق بين المثقف والمفكر ليس مجرد فارق لغوي، بل هو علامة على البنية العميقة لصناعة الوعي في الفضاء الإعلامي.

فمن هو المثقف في اللغة الإعلامية؟ ومن هو المفكر؟ وكيف يُوظَّف كلٌّ منهما في تشكيل الرأي العام؟


المثقف: حامل الشهادة أم حامل الرسالة؟

في التداول الإعلامي، يُطلق وصف "المثقف" على طيف واسع من الشخصيات: من الأكاديمي الجامعي إلى كاتب الأعمدة، من الروائي إلى الفنان، من المذيع إلى الناشط الحقوقي. هذا الاتساع ليس صدفة؛ إنه مقصود. فالمثقف في الخطاب الإعلامي ليس بالضرورة من يُنتج معرفة نقدية أو يُمارس مساءلة للواقع، بل من يُظهر خصائص شكلية: لغة ناعمة، نبرة نُخبوية، وموقف "متوازن" يُرضي السلطة والجمهور معًا.

إن المثقف في هذا السياق ليس صوتًا كاشفًا، بل أداة تزيينية؛ يُجمّل بها الخطاب الرسمي، أو يُضفى بها طابع "الجدية" على الحوارات المصنوعة مسبقًا. لا يُطلب منه تفكيك الروايات، بل شرحها. لا يُراد منه مساءلة المنظومات، بل تطبيعها في لغة راقية.

وهكذا، يتحول المثقف – لا سيما في أنظمة الاستبداد – إلى وسيطٍ ناعم بين القهر والقبول، لا يحمي الوعي بل يُؤَطّره.


المفكر: صاحب الرأي أم خادم النسق؟

وإن كان وصف "المثقف" يُمنح بسخاء، فإن لقب "المفكر" لا يُمنح إلا بشروط. المفكر – في الإعلام – هو من يُقدَّم على أنه المرجعية: يكتب كتبًا، يتحدث في الفلسفة أو السياسة أو التاريخ، ويُطلب منه أن "يحلل الأمور الكبيرة". لكنه في كثير من الأحيان، لا يُنتج فكرًا بالمعنى الفعلي، بل يُعيد ترتيب المعطيات المتاحة بلغة أكثر تعقيدًا.

قد لا يحمل المفكر الإعلامي مشروعًا فلسفيًا واضحًا، أو نظرية نقدية حقيقية، لكنه يُصدَّر كمفكر لأنه يُنتج خطابات طويلة تُشبه الفكر، ويُجيد الدور المنوط به في صناعة الانبهار.

المفارقة أن المفكر الحقيقي نادرًا ما يُستضاف، لأنه لا يُناسب القالب. فهو لا يتحدث بإيجاز، ولا يتعامل مع الشعارات، ولا يختزل القضايا في مواقف سياسية. إنه يُربك الخطاب لا يُطعّمه. ومن هنا، يُقصى من المشهد، أو يُوصم بـ"التجريد" و"الانفصال عن الواقع".


المثقف والمفكر: من ينتج الوعي؟ ومن يُسوّقه؟

الفرق الجوهري بين المثقف والمفكر لا يكمن في عدد الكتب أو حجم الحضور الإعلامي، بل في الوظيفة المعرفية والأخلاقية:

  • المثقف (في صورته الحقيقية لا الإعلامية) هو الذي يتفاعل مع المعرفة ليُجسدها في مواقفه، يربط بين النظر والعمل، ويتخذ موقعًا ناقدًا داخل مجتمعه.
  • أما المفكر فهو من يُنتج المفاهيم، يصوغ الأسئلة الجديدة، ويهدم المسلّمات ليفتح أفقًا بديلًا. إنه لا يستهلك الأفكار بل يبتكرها، لا يُعلّق على الواقع بل يُعيد تأطيره.

لكن حين يدخل الإعلام على الخط، يُعاد رسم الحدود: يُطلب من المثقف أن يستهلك لا أن ينتج، ومن المفكر أن يُبسط لا أن يعقّد، ومن الجمهور أن يُعجب لا أن يتفكّر.

إنهما – في النهاية – يُحوّلان في الإعلام إلى أدوار تمثيلية، تُستحضر وقت الحاجة، لا وظائف تحررية تُستدعى لتهشيم الزيف.


حين يُفرغ الوعي من محتواه

الخطورة لا تكمن في الالتباس بين المصطلحين، بل في ما يترتب عليه: حين يُسمّى "مثقفًا" من يُجيد الخطابة لا التحليل، ويُسمّى "مفكرًا" من يراكم الكلام لا الأسئلة، فإن الوعي الجمعي يُفرغ من مضامينه، وتُستبدل المعرفة بالصورة، والفكر بالتعليق، والنقد بالتطبيع.

وحين تُسلّط الأضواء على الوجوه الناعمة التي تُتقن الدور، يُترك أولئك الذين يفككون الواقع في الظل، ويُغيب مشروعهم لصالح من يُعيد إنتاج ما هو قائم.


في الخلاصة:

المثقف ليس من يُعرض في البرنامج، والمفكر ليس من يُقال عنه ذلك.
التمييز الحقيقي لا تصنعه القنوات، بل تصنعه المواقف والتحليل والعمق الأخلاقي.
والمعركة الحقيقية ليست بين المصطلحين، بل بين صناعة الوعي وتزييفه.

أحدث أقدم
🏠