
الصراع العرقي: القنبلة الصامتة في قلب الاتحاد
عندما انضمت سنغافورة إلى اتحاد ماليزيا عام 1963، لم تكن الأرض ممهدة لوحدة مستدامة. الأغلبية العرقية في سنغافورة كانت من الصينيين، في حين كانت ماليزيا مصممة سياسيًا لتكريس الهيمنة المالاوية. نشب توتر حاد بين رؤية "لي كوان يو" لدولة تقوم على مبدأ "ماليزيا الماليزية" – أي المساواة بين الأعراق – وبين النخبة الحاكمة في كوالالمبور التي اعتبرت تلك الدعوة تهديدًا مباشرًا للهوية الملاوية الحاكمة.
اندلعت اضطرابات عرقية عنيفة عام 1964، وأسفرت عن مقتل العشرات، في مشهد جعل بقاء سنغافورة داخل الاتحاد تهديدًا للاستقرار العام. لكن كان هذا التوتر أكثر من مجرد اشتباك شعبي؛ لقد وفّر الذريعة المثالية لتسوية أكبر تُرسم في الخفاء.
التنافس الاقتصادي: سنغافورة كعب أخيل في جسد الاتحاد
كانت سنغافورة تمتلك طموحًا اقتصاديًا مفرطًا، وقيادة بيروقراطية ذات كفاءة غير مألوفة في الإقليم. سعت حكومة "لي كوان يو" إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، وإطلاق سياسات تصديرية متقدمة، متجاوزة بذلك سياسة ماليزيا الأكثر حذرًا وتباطؤًا.
لم تكن المشكلة في نجاح سنغافورة، بل في أنها كادت تهيمن على مستقبل الاتحاد بأكمله. النخب السياسية في كوالالمبور بدأت ترى في الجزيرة تهديدًا اقتصاديًا طويل المدى، لا مجرد شريك.
الطرد السياسي: حين يكون الاستقلال مفروضًا
في خطوة مباغتة، أعلن رئيس وزراء ماليزيا، توانكو عبد الرحمن، أن سنغافورة ستُفصل عن الاتحاد. لم يكن الأمر نتيجة استفتاء شعبي، ولا عملية تفاوضية. كان انفصالًا مفروضًا من أعلى، جاء تحت عنوان "من أجل مصلحة الجميع"، لكن حقيقته كانت أقرب إلى الطرد السياسي الوقائي.
وقد صرح عبد الرحمن لاحقًا أنه فضّل انفصالًا مؤلمًا على الدخول في حرب أهلية قد تمزق البلاد.
لكن السؤال الأهم: هل كان القرار محليًا خالصًا؟ أم هل كان هناك من يدفع خلف الكواليس باتجاه هذا السيناريو؟
الظل البريطاني: مَن الذي يرسم الحدود فعليًا؟
رغم إعلان بريطانيا نيتها الانسحاب من شرق آسيا، إلا أنها كانت لا تزال قوة فاعلة ميدانيًا في الستينيات. وكانت سنغافورة مقرًا لواحدة من أهم القواعد البحرية والجوية البريطانية، ومركزًا حيويًا في معادلة الحرب الباردة، خاصة في مواجهة الصين الشيوعية وامتداداتها الأيديولوجية.
كان بقاء سنغافورة ضمن اتحاد غير مستقر يهدد هذه المصالح. الانفصال يمنح بريطانيا (ومن خلفها الغرب) سنغافورة مستقلة، آمنة، وخاضعة لسياسات السوق والانفتاح، دون الحاجة للتفاوض مع الحكومة الاتحادية في كوالالمبور.
لم يُعلن عن ضغوط مباشرة، لكن السياق الجيوسياسي والمصالح البريطانية في المنطقة كانت واضحة: لا استقرار في ماليزيا إلا بخروج العنصر الصيني المتفوق اقتصاديًا.
انفصال أم إعادة تموضع استراتيجي؟
الطرح الإعلامي السائد يعرض القصة على أنها صدام داخلي ماليزي – سنغافوري. لكن تفكيك الوقائع يظهر أن سنغافورة:
- لم تطلب الاستقلال علنًا.
- لم تُمنح استفتاءً شعبيًا.
- لم تكن دولة تسعى للانفصال، بل حُملت عليه.
إنها حالة إعادة تموضع استراتيجي تحت ضغط عوامل داخلية وخارجية، لضمان ألا تتحول التوترات العرقية والاقتصادية إلى أزمة إقليمية تهدد المصالح الغربية. فتم التضحية بالوحدة السياسية، لصالح إنشاء كيان منفصل لكنه أكثر قابلية للتوجيه.
الخلاصة: من يرسم خرائط ما بعد الاستعمار؟
قصة انفصال سنغافورة عن ماليزيا ليست مجرد فصل جغرافي بين جزيرة ودولة أم. إنها نموذج لتفكيك تكتلات ما بعد الاستعمار حين تُصبح غير ملائمة لمصالح القوى الكبرى. وما يظهر كخيار سيادي داخلي، كثيرًا ما يكون مُدارًا من الخارج، بوسائل ناعمة لا تحتاج إلى الجيوش، بل إلى إدارة ذكية للتوازنات العرقية والاقتصادية والسياسية.
سنغافورة لم تنفصل فقط عن ماليزيا. انفصلت عن سياقها الطبيعي، لتدخل حضن منظومة اقتصادية غربية، وتتحول من مكون محلي إلى قاعدة دولية بوظيفة محددة.