حين يُذكر "النموذج الإسلامي الناجح" في عصرنا، تتجه الأنظار سريعًا إلى ماليزيا. صورةٌ مُبهرة تُقدَّم على أنها البرهان الممكن على توافق الإسلام مع الحداثة والتقدّم.
لكن خلف هذه الصورة الناعمة تكمن طبقات من الأسئلة المسكوت عنها.
هل ماليزيا فعلًا نموذج إسلامي؟ أم نموذج رأسمالي بمسحة ثقافية؟
وهل النجاح في المؤشرات الاقتصادية كافٍ ليُبنى عليه وعيٌ حضاري جامع؟
ماليزيا: النموذج الناجح أم النموذج المعلّب؟
حين يُذكر "النموذج الإسلامي الناجح" في زمننا، تتجه الأنظار تلقائيًا إلى ماليزيا. تُقدَّم كأنها البرهان المشرق على إمكانية التوافق بين الإسلام والحداثة. لكنها صورة لامعة تخفي طبقات من الأسئلة العميقة.
هل نحن أمام مشروع حضاري إسلامي حقيقي؟ أم أمام نموذج رأسمالي مغلّف بهوية ثقافية؟
وهل يمكن اعتبار النجاح الاقتصادي وحده أساسًا لنهضة يُبنى عليها وعي حضاري مستقل؟
حين تُسوَّق التنمية بوصفها إسلامًا
تُروَّج التجربة الماليزية في كثير من الأوساط الفكرية والإعلامية على أنها "نموذج الدولة الإسلامية الناجحة". هذا التوصيف الجاهز يمنحها هالة دعائية تتجاوز حجم التجربة نفسه، ويجعل من كل إنجاز اقتصادي أو استقرار سياسي دليلاً على نجاح "الإسلام المنفتح"، مقابل فشل النماذج الأخرى.
لكن من الضروري التمييز بين خطاب تسويقي يحتفي بالشكل، وبين تقييم نقدي يتساءل عن الجوهر:
هل النجاح الماليزي يعكس مشروعًا إسلاميًا في جوهره؟ أم أنه ثمرة اندماج في النظام الرأسمالي العالمي مع بعض الخصوصية الثقافية؟
النموذج المعلّب: نسخة متصالحة مع المنظومة
النسخة التي تقدّمها ماليزيا ليست مشروعًا تحرريًا نابعًا من الذات، بل تكيفًا ذكيًا مع شروط العولمة الليبرالية.
فالنموذج الماليزي لم يُنتج نظرية بديلة، ولا قدّم رؤية استقلالية للنهضة، بل تبنّى الأدوات الاقتصادية الغربية نفسها، وأعاد توظيفها ضمن خطاب محلي يوائم بين الإسلام والرأسمالية.
النتيجة؟
دولة ناجحة تنمويًا، لكنها لا تهدّد المنظومة العالمية، بل تعزّز شرعيتها وتسوّق لإمكانية ترويض الهويات الثقافية داخل نموذج العولمة.
مهاتير محمد: تسويق المشروع أم صناعته؟
لا شك أن شخصية مهاتير محمد كانت محورية في صعود النموذج الماليزي، لكنه لم يكن "المفكر المؤسس" بقدر ما كان "المهندس البراغماتي".
قدّم خطابًا عقلانيًا متماسكًا، لكن دون أن يطرح تصورًا فلسفيًا متكاملًا حول الإسلام والنهضة.
خطابه وظّف الإسلام كهوية جامعة، وليس كمحرك مفاهيمي لمشروع تحرري، ما جعله قابلاً للتصدير والتسويق في المحافل الدولية بوصفه نسخة "معتدلة" لا تُقلق مراكز القوة.
أين حدود الإنجاز؟
حين ننظر إلى مؤشرات التنمية في ماليزيا، سنجد اقتصادًا قويًا، وبنية تحتية متقدمة، ونسبة فقر منخفضة.
لكن حين نتأمل في البنية الثقافية والفكرية، نجد فراغًا في إنتاج الرؤية، وعجزًا عن صياغة سردية حضارية مستقلة.
تغيب الأسئلة الكبرى عن النهضة، ولا يظهر أثر واضح للفكر الإسلامي في إدارة الدولة، إلا ضمن شعارات فضفاضة أو رموز ثقافية شكلية.
هل هذا كافٍ لنعتبر ماليزيا نموذجًا إسلاميًا؟ أم أنه نموذج تنموي ناجح ضمن شروط المنظومة الغربية؟
تسويق النموذج أم تكرار الوهم؟
الاحتفاء غير النقدي بالنموذج الماليزي يعكس أزمة في الوعي الإسلامي الحديث.
فبدلًا من أن ننتج نماذج نابعة من ذاتنا التاريخية والمعرفية، نبحث عن نماذج ناجحة ضمن المنظومة لنُلصق بها صفة "الإسلام"، ثم نُقنع أنفسنا أننا انتصرنا.
هذه الرغبة في استيراد النماذج وتعميدها إسلاميًا، تكشف هشاشة في التصور، وضعفًا في الثقة بالذات، وعطشًا للنجاح بأي ثمن، ولو كان نجاحًا معلّبًا.
خلاصة: الإسلام ليس ديكورًا تنمويا
الإسلام ليس هوية تُضاف إلى مشروع رأسمالي ناجح فيتحوّل إلى نموذج حضاري.
والنهضة ليست نموًا اقتصاديًا تحت مظلة البنك الدولي.
والمشروع الإسلامي لا يُقاس بنسبة الفقر، بل بمدى استقلاليته عن المنظومة، وجرأته في طرح بدائل معرفية، وقدرته على إنتاج نموذج إنساني متماسك.
ماليزيا نجحت في بعض الجوانب، لكنها لم تكن مشروعًا تحرريًا، بل مثالًا على قابلية تدجين الهويات داخل العولمة.
ولعل أكبر خطر يواجهنا ليس فشل التجارب، بل نجاح النماذج المعلّبة، حين تُقدَّم إلينا كأحلامٍ جاهزة، فنتحول من باحثين عن الطريق، إلى مروّجين لأوهام الاستثناء.