
في الزاوية الهادئة من جزيرة بورنيو، تتوارى سلطنة صغيرة تكاد لا تُرى على الخريطة، لكنها تحتفظ بحضور يفوق مساحتها بكثير. بروناي، الدولة التي قلّما تتصدر نشرات الأخبار، تبدو وكأنها تفضّل العيش في الظل، بعيدًا عن صخب النزاعات الإقليمية، وصراعات النفوذ الكبرى.لكن خلف هذا الصمت، تُخفي الجغرافيا أسرارًا. موقع استراتيجي على أطراف بحر الصين الجنوبي، وثروة نفطية تفيض عن حاجتها السكانية المحدودة، ونظام حكم شديد المركزية يراهن على الاستقرار قبل الانفتاح. فهل هذا الصمت خيار واعٍ، أم انعزال وظيفي تفرضه الحسابات الكبرى في الإقليم؟
في عالم تُدار فيه التوازنات الدقيقة عبر دول محورية وأخرى وظيفية، تبدو بروناي كحالة ثالثة: دولة صغيرة حافظت على استقلالها وسط عواصف التحولات، دون أن تُستنسَخ تجربتها، ودون أن تُغري الآخرين بتقليدها.
ليست بروناي قوة ناعمة، ولا لاعبًا دبلوماسيًا فاعلًا، لكنها ـ على طريقتها ـ جزء من المعادلة، بحجمها، بثروتها، وبقربها من خطوط التماس بين القوى الكبرى.
في هذا المقال، نحاول قراءة قصة بروناي كما ترسمها الجغرافيا، ويصوغها الاقتصاد، وتُعيد تشكيلها اعتبارات الدور والصمت والمصالح الإقليمية.
أولًا: لماذا وُجدت بروناي كدولة مستقلة؟
الاستقلال الشكلي لبروناي عام 1984 لم يكن تعبيرًا عن قطيعة مع الاستعمار البريطاني، بل كان جزءًا من "نقلٍ ناعم" للسلطة، ضمن سياسة بريطانية معتادة في مناطق النفوذ القديمة: إبقاء السيطرة الاقتصادية والأمنية مع منح رمزية السيادة.
بروناي لم تُستعمر بالكامل كما هو حال بقية جزر الأرخبيل الملايو، بل حافظت على شكل من أشكال الحكم الذاتي تحت الحماية البريطانية منذ 1888. والسبب بسيط: ثروتها من النفط كانت مبكرة الاكتشاف، وقد اتفقت المصالح على ألا تُستنزف في حرب أو تُترك لمزاج الجغرافيا.
ثانيًا: المصالح من استقلال بروناي
-
النفط والغاز – احتياطي استراتيجي صغير الحجم كبير الأثر
بروناي تملك احتياطات معتبرة من النفط والغاز، وهي من بين الأعلى دخلًا للفرد في العالم. وجودها كدولة مستقلة تحت سلطة عائلة مالكة موالية للغرب، يعني إمكانية الوصول الدائم إلى هذه الموارد دون تعقيدات سياسية أو بيروقراطية وطنية معقدة كما في دول أخرى. -
صمام استقرار في قلب بحر الصين الجنوبي
بروناي تقع ضمن منطقة نزاع بحري محتدم بين الصين، الفلبين، فيتنام، وماليزيا. لكن وجود دولة صغيرة، غنية، غير مهددة، وتُدار بشكل مركزي، يجعلها نقطة محايدة ضمن شبكة النفوذ الأميركي والبريطاني في مواجهة تمدد الصين. -
وظيفة رمزية في معادلة "الإسلام المعتدل الغني"
بروناي تطبق الشريعة الإسلامية، ولها نظام سلطاني مطلق، لكنها محسوبة ضمن نموذج الإسلام الموالي للغرب – كالسعودية والإمارات – ما يجعلها مفيدة كمثال يُقدَّم للعالم الإسلامي على أن "الإسلام والثروة والاستقرار" يمكن أن تتعايش إذا توافقت مع المصالح الغربية.
ثالثًا: الدور الوظيفي لبروناي في المنطقة
-
قاعدة مالية هادئة وخفية
بالرغم من حجمها الصغير، بروناي تلعب دورًا مهمًا كمركز مالي محجوب عن الإعلام، يُستخدم لتحريك الأموال الآسيوية والخليجية في اتجاهات لا تُرصد بسهولة، خاصة في ظل ضعف الرقابة الدولية وغياب الشفافية البنكية التامة. -
حليف صامت للهيمنة الغربية
النظام الحاكم في بروناي شديد المركزية، ولا توجد معارضة فعلية. هذا يوفر شريكًا يمكن الوثوق به في تنفيذ سياسات مالية أو تجارية أو حتى أمنية، دون خشية الانقلابات أو ضغط الرأي العام. -
دور محدود في منظمة آسيان – لتجميل التوازنات
انضمام بروناي إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) يُسهم في إضفاء نوع من التوازن السياسي بين الدول ذات الأنظمة الديمقراطية الهشة، والدول السلطوية أو العسكرية. إنها ورقة حياد لا تهدد أحدًا لكنها تملأ فراغًا استراتيجيًا بذكاء.
خاتمة: الدولة الصغيرة كرمز وظيفي
بروناي ليست مجرد دولة مستقلة، بل هي نموذج للدولة الوظيفية الحديثة: صغيرة، غنية، بلا صوت سياسي، لكن ذات أهمية استراتيجية عميقة. ووجودها ليس نتاج خيار شعبي أو حركة تحرر، بل نتيجة تفاهمات بين قوى المال والطاقة والنفوذ، تحرص على أن تبقى قطعة الشطرنج هذه في مكانها بدقة، دون ضوضاء.
ففي عالم ما بعد الاستعمار، لا تقاس أهمية الدول بحجمها الجغرافي، بل بمقدار ما تُنجزه من وظائف لصالح النظام العالمي.