أمن المناخ: حماية للكوكب أم أداة لإعادة تشكيل النظام العالمي؟

في العقود الأخيرة، تحوّل المناخ من ملف بيئي علمي إلى قضية أمن قومي، ثم إلى ركيزة في النظام الدولي الجديد. تُعقد المؤتمرات، وتُطلق الشعارات، وتُضخم الأزمات، كل ذلك باسم "إنقاذ الأرض". غير أن المتأمل في بنية هذا الخطاب ومآلاته وتطبيقاته يدرك أن المسألة لم تعد تتعلق فقط بدرجات الحرارة أو نسب ثاني أكسيد الكربون، بل باتت أداة تُستخدم لإعادة صياغة التوازنات الاقتصادية والتحكمات السياسية عالميًا. والسؤال المركزي الذي ينبغي طرحه: هل هدف اتفاقيات المناخ هو إنقاذ الكوكب فعلًا، أم إعادة هيكلة السيطرة على ساكنيه؟


الهدف الحقيقي: الهيمنة لا الحماية

الخطاب البيئي في جوهره يقوم على سردية نبيلة: "إنقاذ الأرض من الانهيار المناخي". لكن المتابعة الدقيقة تكشف أن هذه السردية تُستخدم أداةً لتأسيس نظام عالمي جديد أكثر انضباطًا وتحكمًا.
إذ لم تعد "البيئة" غاية في ذاتها، بل وسيلة لتبرير:

  • فرض قيود اقتصادية على الدول النامية باسم "الاستدامة".
  • إعادة توزيع النفوذ الصناعي لصالح شركات التكنولوجيا والطاقة المتجددة في الغرب.
  • تشكيل عقل جمعي دولي قابل للامتثال والإذعان تحت تأثير "الخطر المناخي".

بهذا المعنى، يتحول المناخ إلى ذريعة ناعمة تستخدمها القوى الكبرى لترسيخ نموذج جديد من السيطرة، أكثر دهاءً من الاستعمار المباشر، وأقل كلفة من الاحتلال العسكري.


انسحاب أمريكا وعودتها: سياسة لا قناعة

لم تكن مواقف الولايات المتحدة من الاتفاقيات المناخية ناتجة عن تقييم علمي لخطورة التغير المناخي، بل عن تقدير سياسي لموازين المصالح.
فحين وقّعت على اتفاقية كيوتو ثم امتنعت عن المصادقة عليها، كان السبب المعلن هو أن الاتفاقية "غير منصفة" لأنها لا تُلزم الصين والهند. لكن الحقيقة أن أمريكا خشيت على صناعاتها الثقيلة وشركاتها النفطية من القيود البيئية.
انسحاب إدارة ترامب من اتفاق باريس ثم عودة إدارة بايدن إليه، يؤكد أن التغير المناخي بالنسبة للولايات المتحدة هو ورقة تفاوض ومساومة، لا التزام أخلاقي أو علمي.


تهويل إعلامي مقابل غياب الفعل

الهوة بين الخطاب البيئي والإجراء العملي تكشف غياب النية الحقيقية للتغيير.
فعلى الرغم من التحذيرات المتكررة من "نقطة اللاعودة" و"الغليان المناخي"، لم تُتخذ إجراءات جوهرية جادة تتناسب مع حجم هذه التهديدات المعلنة.

بل الأدهى من ذلك، أن الكثير من الأحداث المناخية تُضخم إعلاميًا دون إثبات علمي راسخ على علاقتها بالتغير المناخي، وبعضها - كما تشير تقارير وتحقيقات محلية - يُشتبه في كونه مفتعلًا (مثل حرائق الغابات في عدة دول).
هذا التهويل يثير تساؤلًا مشروعًا: هل يُراد للمناخ أن يكون مصدرًا دائمًا لحالة طوارئ نفسية واجتماعية تُبرّر تمرير قرارات استثنائية؟


أين مصداقية الالتزام العالمي؟

من حيث التطبيق، تكاد الاتفاقيات المناخية تفتقر لأي قوة إلزامية حقيقية.

  • لا توجد آلية عقابية تُحاسب الدول على إخلالها بالتزاماتها.
  • معظم التعهدات مرنة ومؤجلة حتى 2050 أو أكثر، بما يسمح بالمراوغة السياسية.
  • التمويلات المفترضة للدول النامية لم تُنفذ، على رأسها وعد الـ100 مليار دولار سنويًا في اتفاق باريس.

كل ذلك يدل أن الهدف ليس الحد من الانبعاثات بقدر ما هو إظهار نوايا سياسية محسوبة إعلاميًا، دون التزام فعلي يُكبّل المصالح الاقتصادية الكبرى.


المناخ كأداة استراتيجية للسيطرة

ما يجري اليوم يتعدى حدود "البيئة"، ويتجه نحو خلق نظام جديد من الرقابة والتحكم الناعم في سلوك الأفراد والدول:

  • فرض شروط بيئية على الاستثمارات والمشاريع في الدول الفقيرة.
  • اشتراطات جديدة لمنح القروض أو القبول في سلاسل التمويل العالمية.
  • تطوير تطبيقات لرصد "البصمة الكربونية الشخصية"، تمهيدًا لمجتمع يُراقَب لا سياسيًا فقط، بل حتى في أنماط استهلاكه اليومية.

يُراد للمناخ أن يكون نقطة ارتكاز لسلطة جديدة ناعمة: لا تتدخل بالدبابة، بل بالإحصاءات والبيانات والتمويلات المشروطة.


خاتمة: أزمة حقيقية أم مشروع تحكّم؟

نعم، التغير المناخي واقع مادي له شواهد علمية. لكن التوظيف السياسي لهذا الواقع بات أوضح من أن يُنكر.
إننا أمام مشروع متعدد الأهداف:

  • ظاهره إنقاذ الكوكب.
  • وباطنه إعادة ترتيب مواقع القوة والنفوذ عالميًا.
  • ونتيجته: خلق إنسان جديد أكثر امتثالًا، يستهلك كما يُراد له، ويتنقل كما يُؤذن له، ويفكر ضمن حدود ما يُملى عليه.

من هنا، فإن أمن المناخ ليس مجرد مسألة بيئية، بل مشروع سياسي وأمني واقتصادي معولم، يُعاد من خلاله رسم خريطة العالم من دون إطلاق رصاصة واحدة.

أحدث أقدم
🏠