مشروع أتاتورك: تغريب أمة وتفصيل هوية على مقاس الغرب

لم تكن "الكمالية" مجرّد مرحلة في تاريخ تركيا الحديث، بل كانت مشروعًا جذريًا لإعادة قولبة مجتمعٍ بأكمله. لم يولد هذا المشروع استجابة لحاجة داخلية حقيقية، بل فُرض كـ نموذج فوقي مستورَد، جرى تطبيقه بقوة الدولة وليس بإرادة المجتمع. ومنذ لحظته الأولى، تحوّل إلى أداة هندسة اجتماعية وتعسف ثقافي، هدفها ليس تحديث الأمة، بل اقتلاعها من جذورها.

فلماذا وُلد هذا المشروع؟ ولماذا طُبّق بتلك القسوة؟ ومن المستفيد منه؟ وكيف بدأت نهايته كمنظومة فكرية وسلطوية؟


أولًا: ولادة المشروع من رحم الانفصال عن الأمة

جاء مشروع أتاتورك في لحظة سقوط كبرى، حيث كانت الخلافة العثمانية قد انهارت، والدولة العثمانية قد قُسّمت، والهوية الإسلامية تتلقى طعنة عميقة. وفي هذه اللحظة الحرجة، وبدلًا من ترميم الوعي الجمعي وإعادة بناء الأمة على أسسها التاريخية، قرر أتاتورك قطع الصلة مع الماضي، وإعادة تشكيل تركيا وفق نموذج غربي علماني قومي محض.

لم يكن المشروع مجرد "إصلاح ديني" ولا "تحديث إداري"، بل كان إعادة تعريف للهوية: من أمة مسلمة متعددة القوميات، إلى دولة قومية تركية علمانية منزوعة العمق الحضاري.


ثانيًا: العلمنة القسرية والتطبيق التعسفي

لأن المشروع لم يكن ابنًا للوعي الشعبي، بل جاء من رأس نخبة مؤمنة بالمحاكاة الغربية، فقد فُرض بالقوة لا بالاختيار. ومن مظاهر ذلك:

  • إلغاء الخلافة الإسلامية دون أي حوار مجتمعي.
  • استبدال الحرف العربي باللاتيني، وقطع الصلة بالتراث المكتوب.
  • تجريم الحجاب والمظاهر الإسلامية، وملاحقة المتدينين بتهمة "الرجعية".
  • إغلاق المدارس الدينية ومصادرة الأوقاف.
  • فرض نمط لباس غربي قسريًا، حتى أصبحت القبعة رمزًا لولاء الدولة.

لقد اختارت الكمالية أن تحكم باسم "الحداثة"، لكن بأدوات استبدادية، فحوّلت الدولة إلى شرطة ثقافية وهوية إجبارية.


ثالثًا: من المستفيد من المشروع؟

يظهر للوهلة الأولى أن الهدف هو تحديث تركيا، لكن التحليل النقدي يكشف أن المشروع خدم:

  • الغرب الاستعماري: إذ مثّلت تركيا الكمالية تجربة مثالية لـ "تحييد الإسلام السياسي والحضاري" من قلب العالم الإسلامي.
  • النخبة العسكرية والبيروقراطية العلمانية: التي احتكرت الدولة ومؤسساتها باسم حماية "إرث أتاتورك"، فتم تأميم الهوية لصالح طبقة محدودة.

هكذا، أصبح المشروع الكمالي وسيلة للهيمنة الطبقية والثقافية باسم "التقدم"، وليس مشروعًا لتحرير الأمة أو نهضتها.


رابعًا: متى بدأت نهايته؟

بدأت تصدعات المشروع حين اتضح أنه فشل في تحقيق ما وعد به:

  • لم تُنتج الكمالية دولة مزدهرة اقتصاديًا.
  • لم تحقق الاستقرار الاجتماعي، بل صنعت قطيعة بين الشعب والدولة.
  • قاوم المجتمع التركي القطيعة مع الإسلام، فظلت التقاليد والدين حاضرين في الوجدان، رغم كل القمع.

ومع نهاية القرن العشرين، بدأت موجات الاسترداد الثقافي والسياسي:

  • صعود الإسلاميين انتخابيًا في التسعينات.
  • وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في 2002.
  • تفكيك الدولة العميقة المرتبطة بالمؤسسة العسكرية.
  • عودة النقاش المفتوح حول الخلافة والهوية والماضي العثماني.

لم تنته الكمالية تمامًا، لكنها فقدت قدسيتها السياسية وسقطت كمرجعية مطلقة.


خاتمة

مشروع تركيا الكمالي لم يكن تحديثًا، بل هندسة فوقية لقمع هوية الأمة واستبدالها بنسخة غربية مشوّهة. وُلد من رحم الهزيمة، ونُفّذ بالتعسف، وخدم مصالح قوى الهيمنة الداخلية والخارجية، وسقط حين استعاد المجتمع صوته ووعيه.

إنه ليس مجرد فصل من التاريخ، بل نموذج تحذيري لكل من يظن أن الأمم تُصنع بالقوة وتُبرمج بالنسخ.

أحدث أقدم
🏠