الولاء والبراء: المفهوم العقدي الذي لا يسبقه توجه

يُعدّ مفهوم الولاء والبراء من المفاهيم المركزية في بنية العقيدة الإسلامية، لا بوصفه مسألة فرعية أو سلوكًا خُلقيًا، بل باعتباره انعكاسًا مباشرًا لانتماء الإنسان إلى التوحيد. فهو ليس ترفًا فكريًا، ولا ناتجًا عن ظرفٍ سياسي، بل جزء من التصور الكلّي الذي يحدد معالم العلاقة بين المؤمن وغيره، على أساسٍ من الوحي لا من المزاج أو المصلحة.

تاريخيًا، مثّل الولاء والبراء معيارًا يُفصل به بين الانتماء الحقيقي والانتماء الصوري، وهو ما يجعل هذا المفهوم سابقًا لكل تصنيف حزبي أو اجتهاد سياسي.


إذ أن ترتيب التوجهات لا يمكن أن يسبق الثوابت، ولا يُتصور في بنية العقيدة الإسلامية أن تُفاضَل المشاريع قبل التثبّت من بُنية الانتماء ذاته.

الولاء، من حيث هو، لا يُقصد به الاصطفاف العدائي المجرد، ولا يُقصد به الإلغاء الأخلاقي للآخر، بل هو موقف عقدي محدّد الإطار، مضبوط بأحكام الشرع، يُعبّر عن الاصطفاف القلبي والعملي مع ما يحبّه الله ويرضاه، ويُجسّد البراءة من ما يبغضه الله ويرفضه. وبهذا الفهم، لا يكون الولاء مقتصرًا على المشاعر، ولا على الأحكام الظاهرة، بل هو تحقق جوهري لمفهوم الانتماء إلى الإسلام ذاته.


وقد ظهرت في العقود الأخيرة محاولات متزايدة لإعادة تعريف هذا المفهوم ضمن قوالب جديدة، تفرغه من محتواه العقدي، وتُعيد تركيبه بلغة المصالح، أو ضمن منطق "الاعتدال السياسي". وفي ظل هذه التحولات، تُطرح العلاقة مع الكافر لا على أساس المفاصلة العقدية، بل على قاعدة التفاهم المشترك، أو التعايش العام، أو مقتضيات الدولة المدنية. ومع أن الإسلام لم يُحرّم البر، ولا القسط، ولا الإحسان، مع من لم يقاتل، إلا أن تحويل ذلك إلى مدخل لتمييع المفاصلة العقدية، يُعدّ انزياحًا خطيرًا عن البنية الأصلية للتصور الإسلامي.


إن الموقف من غير المسلم ليس مسألة شعور، ولا ردّة فعل، بل تجلٍ مباشر لمعيار الولاء والبراء كما قرّره الوحي. فالمعيار الذي يُحدّد طبيعة العلاقة ليس الذوق، ولا الظرف، بل الموقف الشرعي من دين الآخر، ومن مواقفه تجاه دين الإسلام. وبذلك، تُصبح البراءة من الكفر لا تعني عداوة شخصية، ولا دعوة إلى ظلم، بل هي رفض مبدئي لحالة الشرك والكفر بوصفها نقيض التوحيد.


على هذا الأساس، يُفهم أن الولاء لله لا يُناقض العدل، ولا يُبرّر الغلو، كما أن البراءة من أعداء الله لا تُنتج بالضرورة عدوانًا. فالقرآن قد جمع بين المفاصلة التامة في الولاء، والبر الكامل في التعامل مع غير المحارب. وهذا الجمع هو ما يحفظ توازن المفهوم، دون تفريط ولا إفراط.


أما المفارقة التي تقع اليوم، فهي أن يُصبح الموقف من الكافر تابعًا لمصلحة الدولة، أو مقتضى السياسة، أو توجه الخطاب، فيُعاد تشكيل المفهوم لا وفق النص، بل وفق المزاج العام أو اعتبارات الرأي العام العالمي. وفي هذه الحالة، تتحول العقيدة إلى ما يشبه الهوية الثقافية، وتفقد مركزيتها التوجيهية، ويُصبح التوحيد مجرد عنوان حضاري لا مشروعًا للولاء والمفاصلة.


لهذا، يُعدّ مفهوم الولاء والبراء سابقًا لكل انتماء سياسي، ومقدّمًا على كل اصطفاف حزبي، ولا يُقاس عليه فهم الدين، بل يُقاس به صدق الانتماء للدين. ومن دون هذا الترتيب، تتبدل الموازين، ويُصبح المشروع الإسلامي نفسه بلا قاعدة، إذ كيف تُبنى دولة أو نهضة أو مقاومة، في ظل تمييع المفهوم الذي يحدد هوية الأمة ومركز جاذبيتها العقدية؟


إن التوحيد الذي لا يُفضي إلى ولاء، هو توحيد مفرغ من مدلوله،
والدين الذي لا يُنتج براءة من الكفر، يتحول إلى ديانة ثقافية، لا وحيًا مُنزّلا.

أحدث أقدم
🏠