تركيا: الجسر المتحرّك في لعبة الأمم

في لوحة الشطرنج الجيوسياسي للعالم الحديث، لم تعد القطع الثابتة ذات جدوى. وما بين أفيال الشرق وأسود الغرب، تنهض تركيا لا كملكٍ ولا كوزير، بل كـ"جسر متحرّك"، يحوّل موقعه إلى سلطة، ويصوغ حضوره بين الضفتين كلاعب لا يمكن تجاوزه.
إنها ليست قوة عظمى، لكنها تعيق تحركات العظماء. ليست رأساً في الهيكل العالمي، لكنها في مفاصله. وهذا ما يجعلها اليوم، لا في قلب التحالفات، بل على حوافها… حيث تُصنع المفاجآت.


قوة الجغرافيا: حين تتحوّل الأرض إلى قرار سياسي

القوة الحقيقية لتركيا ليست في عدد جيوشها ولا في عمق اقتصادها، بل في أرضها ذاتها.

تقع تركيا في قلب البرزخ بين آسيا وأوروبا، تتحكم في المضائق البحرية التي تفصل البحر الأسود عن المتوسط، وتشرف على البلقان من الغرب، والقوقاز من الشرق، والشام من الجنوب. هي الطاولة التي يجلس عليها الجميع، لا المقعد الذي يشغله أحدهم فقط.

من هذه الجغرافيا، وُلِدَت الدولة العثمانية. ومن هذه الجغرافيا، تحوّلت تركيا الحديثة إلى ما يشبه الحارس الإجباري لعبور المصالح الكبرى.

الجغرافيا هنا ليست خريطة، بل شرط وجود. هي ما يجعل من تركيا لاعبًا حاضرًا بالضرورة، حتى إن لم تكن الأقوى في الأرقام.


بين البوسفور وواشنطن: سياسة الحواف بدل المحاور

تركيا ليست في معسكر الغرب كما كانت في عقود الحرب الباردة، وليست في معسكر الشرق كما تتمنى بعض العواصم الطامحة. بل هي في موقع ثالث… متحرّك. تستخدم عضويتها في حلف الناتو، ثم تشتري منظومة S-400 من روسيا. تتفاوض مع طهران في أستانا، وتستضيف قاعدة إنجرليك الأمريكية. تعارض نظام الأسد، لكنها تنسّق مع موسكو في الشمال السوري. تفتح أبواب الاستثمار للصين، ثم تتحدث عن "تراث العالم التركي" في آسيا الوسطى.

تلك ليست تناقضات، بل تكتيكات سياسة الحواف: حين تعلّق تركيا موقعها على شفا المعسكرات، لا في عمقها، لتحوّل كل علاقة إلى فرصة تفاوض.


القوة التي تمنع الحسم

تركيا لا تحسم الصراعات، لكنها تمنع حسمها. في ليبيا، قلبت موازين القوى عندما أرسلت طائراتها المسيّرة، فأنهت مشروع حفتر نحو طرابلس. في ناغورنو قره باغ، ساعدت باكو على حسم المعركة، لكنها لم تدفع نحو استئصال الأرمن. في سوريا، تمنع النظام من استعادة الشمال، دون أن تسقطه.

إنها لا تبني حلولًا، بل تبني مساحات تأجيل، تجعل منها بابًا لا يُفتح إلا بمفتاح تركي.


جيش بلا إمبراطورية، وذكريات إمبراطورية بلا جيش

هنا تكمن المعضلة: تركيا تمتلك جيشًا قويًا، واقتصادًا متوسط القوة، وطموحًا حضاريًا كبيرًا. لكنها بلا غطاء أيديولوجي أممي، كما كانت في عهد الخلافة. لم تعد "مركز العالم الإسلامي"، ولا "شرطي الغرب"، ولا "محور الشرق".

ولهذا، فإن قوتها اليوم استراتيجية، لا إمبراطورية. هي قوة "بمواقع"، لا "بمنظومة". قوتها في أن تكون ممرًا إلزاميًا لكل مشروع دولي في منطقتها، لا لأن لها مشروعًا مكتمل الأركان.


هشاشة الداخل وحدود الخارج

لكن هذه الحيوية السياسية تخفي واقعًا اقتصاديًا هشًا: ليرة مضطربة، تضخم خانق، واستقطاب داخلي يهدد الاستقرار. فتركيا لم تخرج بعد من صراع الهوية بين العلمانية والكمالية والإسلام السياسي. ولم تحسم خيارها بين دور "الأمة القائدة" أو "الدولة الإقليمية". ولهذا، فإن كل تمدد خارجي يصطدم أحيانًا بخزّان طاقة داخلية غير مستقرة.


تركيا: لاعب أم ساحة؟

يبقى السؤال الأعمق: هل تركيا لاعب مستقلّ، أم أنها تتحرّك لأن الجميع يريد استغلال موقعها؟ هل تبني سياسة فعل، أم أنها تتفاعل مع الضغوط وتُجيد المناورة؟

الإجابة ليست واحدة. فتركيا – كما جغرافيتها – تعيش بين قارتين، وبين لحظتين تاريخيتين: لحظة مجد قديم، ولحظة دور جديد لم يُحدَّد بعد.

ولهذا، فإن تركيا تبقى "الجسر المتحرّك" في عالم يتبدّل. لا يمكن للعالم أن يعبر من دونه، لكنه لا يستقر عليه.



أحدث أقدم
🏠