بين النازية والديمقراطية: ألمانيا من الإبادة إلى دعم الإبادة

لطالما شكّلت ألمانيا نموذجًا للتجدد والخروج من رماد التاريخ، لكن هذا الخروج لم يكن دومًا نزيهًا أو مكتملًا. ففي حين بُني خطابها الحديث على التبرؤ من الماضي النازي، والانخراط في قيم حقوق الإنسان، نراها اليوم تقف في صفّ سياسات إبادة جماعية، تدعمها سياسيًا وعسكريًا، خصوصًا في السياق الفلسطيني. فهل تخلّت ألمانيا حقًا عن النازية؟ أم أنها فقط غيّرت أدواتها؟ وهل يمكن لدولة أن تتبنى خطابًا مضادًا للإبادة، بينما تسلّح وتموّل من يرتكبها؟ هذا المقال محاولة لتفكيك التناقض الأخلاقي العميق في الموقف الألماني، بين ماضٍ تتظاهر بجلده، وحاضرٍ تسهم في جراحه.


عقدة الذنب وأسطورة التكفير

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، صاغت ألمانيا لنفسها خطابًا جمعيًّا قائمًا على الاعتراف بالذنب النازي، وتكريس ذاكرة المحرقة كجزء من الهوية القومية الحديثة. تحوّل هذا الخطاب إلى أداة لتبرير انحيازها غير المشروط لإسرائيل، بوصفها "تكفيرًا تاريخيًا" لا يقبل النقاش. وبذلك، تم تحويل جريمة نازية بحق يهود أوروبا إلى صكّ غفران سياسي دائم، يُستخدم لتبرير كل ما تفعله إسرائيل، حتى لو كان ذلك يشمل تكرار منطق الإبادة ذاته ضد شعب آخر.


من ضحية التاريخ إلى شريكه

لا تقف ألمانيا اليوم في صفّ الضحية، بل في صفّ من يمارس القتل تحت غطاء الديمقراطية. فالدعم الألماني العسكري لإسرائيل، وخاصة في عدوانها المستمر على غزة، يكشف عن انحياز لا يمكن تبريره فقط بسردية الهولوكوست. بل إن ألمانيا، التي تدّعي التزامها بالقانون الدولي، تزوّد منتهكيه بالسلاح والمواقف السياسية. والمفارقة أن هذا يحدث بينما تحاكم نفسها وشعبها مرارًا على جرائم الماضي، لكنها تعفي نفسها من مسؤولية الجرائم الجارية التي تشارك في صنع أدواتها.


الديمقراطية حين تغطي القتل

ثمة خلطٌ مقصود بين شكل النظام ومضمون ممارساته. فكون ألمانيا دولة ديمقراطية لا يعني أنها محصنة ضد التواطؤ في الجرائم. بل قد يكون النظام الديمقراطي ذاته هو ما يمنح هذا التواطؤ شرعية مضاعفة، باعتباره "ناتجًا عن إرادة شعبية". وهنا يتجلى خطر أخلاقي مريع: أن تُستخدم الديمقراطية لتسويق الإبادة، تمامًا كما استخدم النازيون آنذاك أدوات الدولة الحديثة لارتكاب فظائعهم باسم الأمة.


الإعلام الألماني: نازية مقنّعة؟

يُروّج الإعلام الألماني لسردية واحدة: إسرائيل ضحية، الفلسطينيون معتدون، والجيش الإسرائيلي "يدافع عن نفسه". هذه البروباغندا لا تختلف كثيرًا، في جوهرها، عن الخطاب النازي الذي جرّم الضحية وبرّر سحقها باسم "الأمن القومي" و"التفوق الحضاري". فهل غيّرت ألمانيا قناعها فقط، لتُعيد إنتاج نفس السرديات، ولكن بلغة الديمقراطية هذه المرة؟ وهل يكفي أن يكون الإعلام حرًّا شكليًا، إذا كان يكرر نفس أدوات الكذب القديمة؟


ازدواجية المعايير: من أوكرانيا إلى فلسطين

تكشف المقارنة بين الموقف الألماني من حرب أوكرانيا وموقفها من العدوان الإسرائيلي عن تناقض صارخ. في الأولى، تتصدر برلين مشهد الدفاع عن "الحرية وحقوق الشعوب"، وتغدق بالمساعدات العسكرية والإنسانية، وتفتح أبوابها للاجئين. أما في الحالة الفلسطينية، فتغلق أبوابها، وتشيطن من يتعاطف مع الضحية، وتُجرّم التظاهرات المؤيدة لغزة، حتى وإن كانت سلمية. أي ديمقراطية هذه التي تحاسب الناس على التعاطف؟ وأي قيم إنسانية تلك التي تُبنى على تصنيف الضحايا حسب هوية القاتل؟


خلاصة: بين ذاكرة انتقائية وواقع مُعاد

ألمانيا اليوم ليست نازية من حيث الشكل، لكنها تشارك –بأدوات جديدة– في استمرار منطق النازية من حيث المضمون: تصنيف البشر، تبرير القتل، واستعمال القانون لخدمة القوة. لقد اختارت أن تكون "ضد الإبادة" حين كانت ضحيتها، لكنها لم ترفض مبدأ الإبادة ذاته. بل أعادت توظيفه في دعم "إبادة مقوننة"، ترتكبها دولة ترفع شعار الديمقراطية، بينما تسحق بشعب كامل تحت ركام الحصار والقصف.

إنه اعتذار عن الإبادة... بدعم الإبادة.

أحدث أقدم
🏠